مطوية الرشوة

28-10-2020 1330 مشاهدة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

من إعداد  أبي سليمان مختار بن العربي مومن

 

 

يتفاوت نظر الناس في هذه الحياة لأهميّة المال ، وإن كان الكلّ يسعى لتحصيله والاستكثار منه ، ويبقى المسلم مقيّدا بأحكام الشّرع ، ومستسلما لأوامر الدّين ونواهيه ، لأنّها تجلب السعادة الحقيقة والتي لايمتلكها المال ولاالجاه ولاغيرهما ، وبذلك يعيش المسلم حياة طيّبة سعيدة ، غير مكدّرة بخبث المال وحرامه ؛ وإن الرشوة مصدر مالي مهم عند أصحاب القلوب المريضة والنّفوس الظامئة للحطام ، وقد جاءت النصوص بتحريم الرشوة ولعن معطيها وآخذها والساعي بينهما ، ولذلك فإنّ من شرّ ما تصاب به الأمم في أهلها وبنيها أن تمتدّ أيدي فئات من عُمَّالها وأصحاب المسؤوليات فيها إلى تناول ما ليس بحقّ، فصاحب الحقّ عندهم لا ينال حقّه إلا إذا قدّم مالاً أو منفعة ، وذو الظّلامة فيهم لا ترفع مظلمته إلاّ إذا دفع رشوة "، ولما كانت جريمة الرشوة قد شاعت ، فإن الحاجة تدعو إلى التذكير بضررها ، وجزاء المتعاملين بها في الدنيا والآخرة .

ماهي الرّشوة : هي كل مال "  يُعْطَى لإِبْطَالِ حَقٍّ أو لإِحْقَاقِ بَاطِلٍ".

وفي الشّق القانوني – تعرف الرشوة  على أنها استيلاء موظف عام على مبالغ من أجل القيام بمهام وظيفته.

أركان الرشوة :

الرّاشي : هو الذي يبذل المال أو المنفعة لمن يحقق له مصلحة، أويعينه على باطل.

 والمرتشي:  هو الشخص المستفيد من غيره مالا أو منفعة لإيصال حقّ يجب عليه أداؤه إلى الراشي  ، أو أن يقوم له بمصلحة غير مشروعة .

 والرّائش (أو الواسطة ) : الذي يسعى بينهما ليحقق مصلحة الطرفين .

الرشوة : وهي المال أو المنفعة التي تبذل بقصد حمل المرتشي على قضاء المصلحة المذكورة .

مسميات مختلفة للرّشوة والمقصد واحد :

جاءت ألفاظ مرادفة للرشوة سواء في القرءان أو السنة أو كلام الناس : منها السّحت ، والبرطيل، وَفِي الْمَثَل : الْبَرَاطِيل تَنْصُرُ الأَْبَاطِيل  . وفي بعض الأوساط الشعبية يقولون : الإكرامية ، والحلاوة ، والهدية ،والقهوة ،وحقّ القات، و الْمُصَانَعَةُ :وقد قيل: مَنْ صَانَعَ بِالْمَال لَمْ يَحْتَشِمْ مِنْ طَلَبِ الْحَاجَةِ. 

الوعيد الشديد لآخذ الرشوة ومعطيها :

قال تعالى  ] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ من الآية (188) البقرة..

وقال تعالى : ] وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) [(62-63) من سورة المائدة . .

 وروى التّرمذي وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله e قال:  « لعن الله الرَّاشي والمُرْتَشِي » ، وفي رواية عند أحمد:  « والرَّائش »  وهو الذي يمشي بينهما أخرجه الترمذي ( 3 / 614 – ط الحلبي ) وقال : " حديث حسن صحيح " وأخرجه أحمد ( 5 / 279 – ط الميمنية ) من حديث ثوبان وفيها زيادة : " والرائش ".

 وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:  « الرّشوة في الحكم كفر، وهي بين النّاس سحت  » صحيح الترغيب برقم (2213) ،ويعني بالكفر هنا أنّـه إذا أعطي الحاكم أو القاضي ومن في معناهما من أهل الولايات الرّشوة من أجل استحلال حقوق الناس وغصبها وإعطائها لآخرين ، لأنّ في ذلك تحليل لماحرّم الله ، أو تحريم لما أحلّ الله فذاك هو الكفر   فهي كفر ] ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون[.

وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ t ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e  يَقُولُ: « مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّبَا ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسَّنَةِ[1] ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرُِّشَا ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالرُّعْبِ » أخرجه أحمد 4/205(17976).

قال السّاعاتي في معناه : أي الخوف والفزع بحيث يسلّط الله عليهم من يخيفهم من الأعداء ،أو يخيفهم بالطاعون ونحو ذلك " الفتح الرباني (15/212) .،و قال ابن حجر : وفي هذا الحديث ما يقتضي أن الطاعون والوباء ينشأ عن ظهور الفواحش "،الله اكبر !! أليس هذا حالنا ياقوم ، أمة لما فشا فيها الرشا جبنت أن تواجه أعداءها بل صار منها فئام عملاء لهم ، أمة أصابها الفزع كلّما قالوا هناك انفلونزا كذا أو كذا ،وماهو والله إلا وعيد الحبيب e الذي أوعد به .

هدايا العمال :

 أي ( الهدايا التي يأخذها  الحكّام والولاَة، والقضاة ،ورؤساء البلديات ،و الموظّفون في الإدارات ، والجمارك ، والمطارات و كلّ مسئوول في كلّ مكان ينتفع به النّاس إنما هي جمر من نار جهنّم فليُقِلَّ أو لِيَسْتَكْثِر من جمر النار):

فقد جاء في حديث عبد الله ابن اللُّتبيّة وحديثه معروف عند المحدثين بهذا الوصف ،وابن اللتبية هو أحد الموظفين في جمع الزكاة وكان النّبيّ e يبعثهم  في تلك المهمّات الرّسمية ، فانظر أخي المسلم ماذا قال عنه النبي e

 لما أهدي له وهو موظف يتقاضى راتبا من الدولة ، روى البخاري في صحيحه  عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ t " قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ e  رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقال رسول الله e : "فَهَلاَ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَنِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي" .

ماهي الأسباب التي تساعد على انتشار الرشوة :

يبدو أنّ الرشوة تتمشّى مع العوامل غير العادية لأنها مرض غير عادي، ولذلك فإنها تفشو في المجتمعات الفاسدة : وأهمّ تلك الأسباب :

1- ضعف الوازع الديني ، ونقص الإيمان ، عند الرّاشي والمرتشي ، والماشي بينهما ، وهذا من أهمّ الدّوافع لأخذ الرشوة .

2- وقوع الظّلم والجور في المجتمعات؛ فيعمد العامّة لدفعها خوفا على أنفسهم، أو لكونها متفشية في أوساط المجتمع .

3- غلاء الأسعار في المجتمعات ، وتدَنِّي الرَّواتب ، مما جعل الحاجيات عند شريحة من النّاس أمرا مهما بل ربما عدُّوها من الضّروريات ،  فركبوا ظهر الحرام ليشبعوا رغباتهم ويُدركوا حاجياتهم ،ولو كانوا مؤمنين حقا مافعلوا ذلك .

4- عدم مراقبة العمّال وأصحاب الولايات على الرّعية من قِبَلِ المسؤولين؛ فيتجرَّأُون في أخذ الرّشوة على أعمالهم.

وهناك أسباب أخرى ذكرناها في كتيب تحت عنوان الرشوة   الخراب القائم …والإثم الدائم .

مكافحة جرائم الرشوة يمكن أن تتحقّق بعدّة وسائل من بينها :      

1- تعظيم حرمات الله تعالى في نفوس النّاس ، وغرس مراقبة الله في قلوبهم .

2- رفع المستوى المادّي للموظفين للحيلولة بينهم وبين العوز والاحتياج  وبالأخصّ الموظفين ذوي الدَّخل المحدود.     
3- إنشاء إدارة خاصّة تسمى" إدارة مكافحة الرّشوة" على غرار إدارة مكافحة المخدّرات وغيرها، وأن يختار لها أناس ذوو أمانة وكفاءة أقوياء .          
4- أن يكون لوسائل الإعلام المختلفة دور فعال في تشجيع الهيئات المكافحة للفساد، وأن تتابع قضايا الرشوة في المحاكم وتشهر بها ترهيبا للناس من هذه الظاهرة.

5- على ولاة الأمور أن يسلّطوا العقوبات القاسية؛ ضدّ كلّ من يثبت عنه بالدّلائل القاطعة استغلال منصبه في المؤسسات الرّسمية وأجهزة الدّولة لحسابه الخاصّ .

6-  أن يدمج  في البرامج التعليمية في مختلف المستويات دروسا توضح  فيها مفاسد الرّشوة ، ومخاطرها .

خاتمة :

إنّ الأمّة الإسلامية تمرّ بمرحلة من أصعب مراحل وجودها ، وهي في أمسِّ الحاجة لمن يأخذ بيدها إلى عوامل البناء الحضاري الرّشيد الّذي عاشته أيّام مجدها ورفعتها ، إلاّ أنّ عوامل الهدم تتنوّع وتتكاثر لكثرة المفسدين ، لاسيما أولئك الذين لايعيشون إلّا على أكتاف غيرهم ،ولايتمتّعون إلاّ بامتصاص الدّماء ومنهم ذلك الصّنف الرّديء ألا وهم  الراشي والمرتشي والرائش الملعونون عند الله على لسان رسول الله e ، المطرودون من رحمة الله ، الممحوق كسبهم، الزَّائلة بركتهم، خسروا دينهم وأضاعوا أمانتهم، استسلموا للمطامع، واستعبدتهم الأهواء، وأغضبوا الرّبّ، وخانوا الإخوان، وغشّوا الأمّة، في نفوس خسيسة وهمم دنيئة، فاللهم أصلح حال أمتنا .  
 

 



[1] – ( إلا أخذوا بالسنة ) أي الجدب والقحط.

 

تعليقات المستخدمين

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يمكنك قراءة

  • 10 ربيع الأول 1442 هـ
    الغناء وأثره على النساء

    الغناء وأثره على النساء

  • 18 جمادى الآخرة 1444 هـ
    الحلول الإسلامية للقضاء على الفقر

    الحلول الإسلامية للقضاء على الفقر

  • 12 ربيع الثاني 1444 هـ
    ورود الخواطر في الصلاة

    ورود الخواطر في الصلاة