حكم التوسل بسيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم

24-11-2020 1475 مشاهدة

من كتابي العرف الناشر العقيدة والتصوف  للشيخ مختار بن العربي مومن

حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم  :

جاء في الموسوعة الفقهية[1] :[التوسل بالنبي بعد وفاته :

اختلف العلماء في مشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم   بعد وفاته كقول القائل: اللهم إني أسألك بنبيك أو بجاه نبيك أو بحق نبيك، على أقوال :

القول الأول :

11 – ذهب جمهور الفقهاء – المالكية والشافعية ومتأخرو الحنفية وهو المذهب عند الحنابلة – إلى جواز هذا النوع من التوسل سواء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم   أو بعد وفاته .  قال القسطلاني : وقد روي أن مالكا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي – ثاني خلفاء بني العباس – يا أبا عبد الله أأستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم   وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو ؟ فقال له مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله عز وجل يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله .

وقد روى هذه القصة أبو الحسن علي بن فهر في كتابه ” فضائل مالك ” بإسناد لا بأس به ،وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه .

وقال النووي في بيان آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم  [2] : ثم يرجع الزائر إلى موقف قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم   فيتوسل به ويستشفع به إلى ربه ، ومن أحسن ما يقول ( الزائر ) ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال : كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم   فجاءه أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله . سمعت الله تعالى يقول : ] وَلو أَنهُم إذْ ظَلَمُوا أنْفسَهم جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لهم الرسُولُ لَوَجدُوا اللهَ تَوابَاً رَحِيمَاً [[النساء : 64] وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي . ثم أنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه     وطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه       فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وقال العز بن عبد السلام : ينبغي كون هذا مقصوراً على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة الأولياء ، لأنهم ليسوا في درجته،وأن يكون مما خص به تنبيهاً على علو رتبته .

وقال السبكي : ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي إلى ربه .

وفي إعانة الطالبين[3] : … وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي . ما تقدم أقوال المالكية والشافعية .

وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامة في المغني[4] بعد أن نقل قصة العتبي مع الأعرابي : ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى . . . إلى أن قال : ثم تأتي القبر فتقول. . . وقد  أتيتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي . . . ” . ومثله في الشرح الكبير[5] .

وأما الحنفية فقد صرح متأخروهم أيضاً بجواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم   .

قال الكمال بن الهمام في فتح القدير : ثم يقول في موقفه : السلام عليك يا رسول الله . . . ويسأل الله تعالى حاجته متوسلا إلى الله بحضرة نبيه عليه الصلاة والسلام .

وقال صاحب الاختيار فيما يقال عند زيارة النبي صلى الله عليه وسلم   . . . جئناك من بلاد شاسعة . . . والاستشفاع بك إلى ربنا . . . ثم يقول : مستشفعين بنبيك إليك .

ومثله في مراقي الفلاح والطحاوي على الدر المختار والفتاوى الهندية .

ونص هؤلاء : عند زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم   اللهم . . . وقد جئناك سامعين قولك طائعين أمرك مستشفعين بنبيك إليك .

وقال الشوكاني : ويتوسل إلى الله بأنبيائه والصالحين .

وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بما يأتي :

أ – قوله تعالى : ] وَابْتَغُوا إليه الوَسِيلةَ [ [6].

ب – حديث الأعمى المتقدم وفيه : « اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة  » . فقد توجه الأعمى في دعائه بالنبي عليه الصلاة والسلام أي بذاته .

ج -«قوله صلى الله عليه وسلم  في الدعاء لفاطمة بنت أسد: اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي ،فإنك أرحم الراحمين » .

د – توسل آدم بنبينا محمد عليهما الصلاة والسلام : روى البيهقي في ” دلائل النبوة ” والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   « لما اقترف آدم الخطيئة قال :  يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله تعالى : يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟ قال : يا رب إنك لما خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ، فقال الله تعالى : صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ، ولولا محمد ما خلقتك » .

هـ – حديث الرجل الذي كانت له حاجة عند عثمان بن عفان رضي الله عنه : روى الطبراني والبيهقي « أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن خلافته ، فكان لا يلتفت ولا ينظر إليه في حاجته ، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف ، فقال له : ائت الميضأة فتوضأ ، ثم ائت المسجد فصل ، ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فيقضي لي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، فانطلق الرجل فصنع ذلك ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه  ، فجاء البواب فأخذ بيده ، فأدخله على عثمان رضي الله عنه  فأجلسه معه وقال له : اذكر حاجتك ، فذكر حاجته فقضاها له ، ثم قال : ما لك من حاجة فاذكرها ثم خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له : جزاك الله خيرا ما كان ينظر لحاجتي حتى كلمته لي ، فقال ابن حنيف ، والله ما كلمته ولكن « شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم   وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره » .

إلى آخر حديث الأعمى المتقدم .

قال المباركفوري : قال الشيخ عبد الغني في إنجاح الحاجة : ذكر شيخنا عابد السندي في رسالته والحديث – حديث الأعمى – يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرم في حياته ، وأما بعد مماته فقد روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان . . إلى آخر الحديث .

وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين : وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم   إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله  سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .

 

القول الثاني في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم   بعد وفاته :

12 – جاء في التتارخانية معزيا للمنتقى : روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به – أي بأسمائه وصفاته – والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى : ] وَللهِ الأسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوه بها [ .

وعن أبي يوسف أنه لا بأس به ، وبه أخذ أبو الليث للأثر .

وفي الدر : والأحوط الامتناع لكونه خبر واحد فيما يخالف القطعي ، إذ المتشابه إنما يثبت بالقطعي . أما التوسل بمثل قول القائل : بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك ، أو بحق البيت فقد ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى كراهته . قال الحصكفي : لأنه لا حق للخلق على الله تعالى وإنما يخص برحمته من يشاء من غير وجوب عليه .

قال ابن عابدين : قد يقال : إنه لا حق لهم وجوبا على الله تعالى لكن الله سبحانه وتعالى جعل لهم حقا من فضله ، أو يراد بالحق الحرمة والعظمة ، فيكون من باب الوسيلة ، وقد قال تعالى : ] وَابْتَغُوا إليه الوَسِيلَةَ [ وقد عد من آداب الدعاء التوسل على ما في ” الحصن ، وجاء في رواية « اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي إليك ، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً » الحديث .

ويحتمل أن يراد بحقهم علينا وجوب الإيمان بهم وتعظيمهم . وفي ” اليعقوبية ” : يحتمل أن يكون الحق مصدرا لا صفة مشبهة،فالمعنى بحقية رسلك،فليتأمل.ا هـ . أي : المعنى بكونهم حقا لا بكونهم مستحقين . أقول ( أي ابن عابدين ) : لكن هذه كلها احتمالات مخالفة لظاهر المتبادر من هذا اللفظ ، ومجرد إيهام اللفظ ما لا يجوز كاف في المنع . . . فلذا والله أعلم أطلق أئمتنا المنع ، على أن إرادة هذه المعاني مع هذا الإيهام فيها الإقسام بغير الله تعالى وهو مانع آخر ، تأمل .

هذا ولم نعثر في كتب الحنفية على رأي لأبي حنيفة وصاحبيه في التوسل إلى الله  تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم   في غير كلمة ” بحق ” وذلك كالتوسل بقوله : بنبيك ” ، أو ” بجاه نبيك ” أو غير ذلك . إلا ما ورد عن أبي حنيفة – في رواية أبي يوسف – قوله : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ” .

 

القول الثالث في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم  بعد وفاته :

13 – ذهب تقي الدين ابن تيمية وبعض الحنابلة من المتأخرين إلى أن التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم  لا يجوز ، وأما التوسل بغير الذات فقد قال ابن تيمية : ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور . أمران متفق عليهما بين المسلمين :

أحدهما : هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم  وبطاعته .

والثاني : دعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم ” أي في حال حياته ” وهذا أيضا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين .

ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً . ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين ، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة ، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة .

وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو كافر أيضا ، لكن هذا أخفى من الأول ، فمن أنكره عن جهل عرف ذلك ، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد .

أما دعاؤه وشفاعته في الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة ، وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم أن له شفاعات خاصة وعامة .

وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم  والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته . والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به ، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقد فيه الصلاح . وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة .

ومن المعنى الجائز قول عمر بن الخطاب : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ” أي : بدعائه وشفاعته .

وقوله تعالى : ] وَابْتَغُوا إليه الوَسِيلَةَ [ أي : القربة إليه بطاعته ، وطاعة رسوله طاعته . قال تعالى : ] مَنْ يُطع الرسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ [ فهذا التوسل الأول هو أصل الدين ، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين . وأما التوسل بدعائه وشفاعته – كما قال عمر  فإنه توسل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسل به ( أي بعد وفاته ) إلى التوسل بعمه العباس ، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس ، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس ، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته .

بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به ، والطاعة له ، فإنه مشروع دائماً .

والمعنى الثالث : التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته ، والسؤال بذاته ، فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته ، لا عند قبره ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم ، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة ، أو عمن ليس قوله حجة .

ثم يقول ابن تيمية : والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد ، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك . وقيل : هو مكروه كراهة تنزيه . والأول أصح . فالإقسام بالنبي صلى الله عليه وسلم  على الله- والسؤال به بمعنى الإقسام – هو من هذا الجنس.

ويذهب ابن تيمية إلى أن التوسل بلفظ ” أسألك بنبيك محمد ” يجوز إذا كان على تقدير مضاف ، فيقول في ذلك : فإن قيل : إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين : تارة يتوسل بذلك إلى ثواب الله وجنته – وهذا أعظم الوسائل – وتارة يتوسل بذلك في الدعاء – كما ذكرتم نظائره – فيحمل قول القائل : أسألك بنبيك محمد على أنه أراد : إني أسألك بإيماني به وبمحبته ، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته ونحو ذلك ، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع . قيل : من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، وإذا حمل على هذا المعنى لكلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم  بعد مماته من السلف ، كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين ، وعن الإمام أحمد وغيره ، كان هذا حسنا ، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع ، ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ، ولا يريدون هذا المعنى ، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر ، وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته وهذا جائز بلا نزاع .

ثم يقول : والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء – من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك – يتضمن شيئين كما تقدم :

أحدهما : الإقسام على الله سبحانه وتعالى به ، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء كما  تقدم ، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق الفقهاء .

والثاني : السؤال به فهذا يجوزه طائفة من الناس ، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف ، وهو موجود في دعاء كثير من الناس ، لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم  في ذلك كله ضعيف بل موضوع ، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول : « أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة » وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه ، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم  وشفاعته ، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم  الدعاء ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم  أن يقول : اللهم شفعه في ” ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم  وكان ذلك يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم .

ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم  بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله .

وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم ، لأن بين السؤال والإقسام فرقا ، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة ، والمقسم أعلى من هذا ، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم ، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه ، فإبرار القسم خاص ببعض العباد ، وأما إجابة السائلين فعام ، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم ، وإن كان كافرا ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن تعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة مثلها ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها قالوا : إذا نكثر ، قال : الله أكثر » .

وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم – وهو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز – ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك ، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوز التوسل به بمعنى الإقسام أو السؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه . ثم يقول : ولم يقل أحد من أهل العلم : إنه يسأل الله تعالى في ذلك لا بنبي ولا بغير نبي . وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين – غير مالك – كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم .

ثم يقرر ابن تيمية أن هذه المسألة خلافية وأن التكفير فيها حرام وإثم . 

ويقول بعد ذكر الخلاف في المسألة : ولم يقل أحد : إن من قال بالقول الأول فقد كفر ،      ولا وجه لتكفيره ، فإن هذه مسألة خفية ليست أدلتها جلية ظاهرة ، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة ، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك .

بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين ، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أيما رجل قال لأخيه : يا كافر فقد باء به أحدهما »[7] .

قلت:إن كثيرا من الذين يجيزون التوسل يستشهدون بقوله تعالى  في سورة الإسراء  أُوْلَئِكَ الذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهِمُ الوَسِيلَةَ أَيهُمْ أَقْرَبُ ( الإسراء : 57 )

ويفسرونه بأنهم : ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به »

ومعنى الوسيلة في الآية: القربة .

وقيل : الدرجة ،وهو ما عليه أهل التفسير، و معنى الآية عند أهـل التفسير قاطبة : أن الله تعالى لما عاب على المشركين في الآية التي قبلها آلهتهم عندما قال: قُلِ ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُم من دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ( الإسراء :56 ) وبين فيهم القصور عن درجة الألوهية أبان لهم نقصاً آخر في آلهتهم لا يستحقون به أن يُعبدوا من دون الله ، وهو أنهم أي الذين تعبدونهم من دون الله فقراء إلى الله يسعون إليه بالقرب والدرجات والأعمال الصالحة أيهم ينال القرب منه بالعمل الصالح . وهم يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ؛ فمن كان مفتقراً إلى غيره راجياً رحمته خائفاً من عذابه لا يستحق أن يُعبد من دون الله .

هذا الذي عليه أهل التفسير قاطبة في معنى هذه الآية كما ذكره الطبري في تفسيره ( 8/95 ) و القرطبي كذلك ( 10/181 ) ، و ابن كثير ( 5/86 ) ،و السيوطي ( 5/306 ) ، و الشوكاني ( 3/237 ) ، وغيرهم ، ولم ينقل عنهم خلاف في هذه الآية إلا في سبب نزولها ، وأصح ما روي في ذلك ما رواه البخاري و مسلم عن ابن مسعود أنها نزلت في أناس كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم أولئك النفر ، وبقي الإنس على عبادتهم من دون الله ، وقيل في سبب نزولها أقوال أخرى ، والمقصود أن الآية ليس فيها دليل على طلب الوسيلة من المخلوق . أماقولهم في معنى قوله سبحانه :  أَيهُمْ أَقْرَبُ  ( الإسراء : 57 ) أي : ينظرون أيهم أقرب إلى الله منزلة فيتوسلون به ؛ فهذا من أعجب العجب بل ومن أبطل الباطل ، ولو كان المراد بذلك ما قالوه لكان معنى الآية :  يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهِمُ الوَسِيلَةَ أَيهُمْ أَقْرَبُ  ( الإسراء : 57 ) بزيادة ( من ) ، وأهل التأويل على خلاف ذلك ، قال القرطبي ( 10/181 ) : ( يبتغون يطلبون من الله الزلفة والقربة ،يتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة ، وهي الوسيلة ، أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم ) . فلهذا لايجوز لامرئ أن يفسر كلام الله تبعا لهواه وإنما ينظر لأساطين التفسير ماقالوا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] – الموسوعة الفقهية الكويتية (14/157). شرح المواهب( 8 / 304 – 305) والمدخل 1 / 248، 252، ووفاء الوفاء 4 / 1371 وما بعدها، والفواكه الدواني 2 / 466، وشرح أبي الحسن على رسالة القيرواني 2 / 478، والقوانين الفقهية ص148.

[2] – كتاب الإيضاح في مناسك الحج والعمرة (454-455) المكتبة الامدادية  مكة المكرمة .

[3] – إعانة الطالبين (2/ 357).

[4] – أوردها في كتاب الحج عند فصل زيارة قبر النبي ، والقصة مختلقة لاأصل لها .

[5] – الشرح الكبير على متن المقنع لابن قدامة (3/ 495)./الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع

[6] – سيأتي تفسير الآية . .

[7] -رواه  البخاري من  حديث  أبي هريرة  t وأحمد والبخاري  عن ابن عمر t .

 

تعليقات المستخدمين

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يمكنك قراءة

  • 03 رمضان 1442 هـ
    حكمة الصوم في الإسلام *

    حكمة الصوم في الإسلام *

  • 26 ذو الحجة 1442 هـ
    قصة شيخ كبير يحتاج لمساعدة ابنه …مؤثرة

    قصة شيخ كبير يحتاج لمساعدة ابنه …مؤثرة

  • 11 ربيع الأول 1442 هـ
    اعتزاز المسلم بعقيدته ودينه

    اعتزاز المسلم بعقيدته ودينه