الإرجاء والمرجئة

27-10-2020 1243 مشاهدة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الإرجاء والمرجئة

 

 

طارق عبد الحليم

 

إن من الصفات اللصيقة ببني الإنسان : العجلة في الأمور ، وكيف لا ؛ وقد

قال فاطر الناس جل وعلا : وكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً ، ثم منَّ تعالى على المؤمنين

بأن وجّه تلك الفطرة العجولة لديهم إلى معنى قُدّ من العجلة ، إلا أن جالب للبر

والخير ، وهو (المسارعة) إلى الخيرات ، وقد قدمت بهذه المقدمة لأستميح القارئ

عذراً لمسارعتي بالكتابة في موضوع هذه المقالة عن الإرجاء والمرجئة ، رغم أنه

يدخل ضمن مجموعة الكتب التي اعتزمت – وأخ لي – أن نصدرها تباعاً – بعون

الله تعالى – عن الفرق الإسلامية ، والتي صدر منها بالفعل مقدمتها عن أسباب

التفرق والاختلاف ، وما فعلت ذلك إلا بعد أن قدرت مدى الحاجة إلى إظهار عوار

تلك الفئة التي ما زالت جرثومتها خافية تارة ، وظاهرة تارات بين

صفوف المسلمين – بل وعجباً ! بين صفوف الإسلاميين منهم – فتصيب ذلك الكيان

الإسلامي بالضعف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب ، ومعرفة

المفسد من المصلح ، وبالتالي أثرها البالغ السوء في الواقع الإسلامي أخلاقياً

وسياسياً .

ونحن لا نعتزم الخوض في هذه العجالة في تفاصيل مذهب (الإرجاء) ومناقشة

أصحابه فيما ذهبوا إليه ، أو الإتيان على ذكر كافة فروع المرجئة التي انقسمت إليها ،

إلا أننا سنذكر اختصاراً ما ذهبت إليه المرجئة بشكل عام في بدعتهم ، ثم نعرِّج

بنقض تلك الأقوال وبيان وجه الحق فيها كما اختطَّه أهل السنة والجماعة ، ثم نلقي

نظرة على الواقع الإسلامي لنرى مدى تأثره بتلك الجرثومة الإرجائية التي لازالت

تنتقل في الجسد الإسلامي ، لتنخر فيه نخراً يفسد عليه قوته ، ويجعله عرضة

للتفكك والانهيار . بعد أن يفسد المحكوم ويطغى الحاكم ويمهد لكليهما سبل الزيغ

والانحراف .

الإرجاء : مصدر أرجأ بمعنى أخر ، يقال : أرجأ الأمر أي أخره . وقد أطلق

هذا الاسم على طائفة المرجئة لما قالوا بتأخير العمل عن الإيمان ، أي فصله عنه

وتأخير مرتبته في الأهمية كذلك لعدم حكمهم على الفاسق أو الكافر بما هو أهلٌ له ،

وادعاء إرجاء ذلك إلى يوم الحساب وتدور عقائد المرجئة حول الإيمان ، إذا ذهب

أكثرهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان – عدا بعضهم ممن زعم أنه

تصديق القلب ولم يشترط أنه النطق بالشهادتين مع القدرة عليهما – ولم يُدخلوا

العمل في مسمى الإيمان ، فالإيمان عند هؤلاء متحقق كاملاً لمن صدق بالرسالة

ونطق بالشهادتين ، وإن لم يأتي بعمل من أعمال الطاعات !

وقد دخلت عليهم تلك البدع من أصل تصورهم للإيمان ، وأنه واحد لا يتجزأ

ولا يتبعض : أي لا يزيد ولا ينقص .

وقد تمسكت المرجئة في أقوالهم تلك بما ادعوه من أن معنى الإيمان في اللغة :

التصديق ، كما في قوله تعالى : ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ، أي : مصدق لنا .

كذلك بظواهر الأحاديث ، كما في قوله – صلى الله عليه وسلم – ، فيما رواه

مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا

الله » ، وفيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- له : « فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً

بها قلبه فبشره بالجنة » .

وقالوا : إن تلك الأحاديث تدل على أن الإيمان هو : تصديق القلب والتلفظ

بالشهادتين ، وهما كافيان لإثبات الإيمان ودخول الجنة دون العمل ! .

وقد تجاوز بعض من ابتلاهم الله بشبه الإرجاء ؛ فلم يكتفوا بإخراج أعمال

الطاعات من الواجبات والمستحبات من مسمى الإيمان بل كذلك الأعمال اللازمة

لتحقيق التوحيد ، كالحكم بما أنزل الله من الشرائع – والذي هو من معاني الشهادتين

والمتعلق بتوحيد ألوهية الله عز وجل – ولم لا ؟ ! والإيمان محله القلب والتصديق

متحقق ؟ ! وما يضر من يترك التحاكم بغير إثم أو ذنب يقترفه مثله كمثل سارق

البرتقالة ، أو من يؤذي جاره ؟ ! .

فأتوا بذلك بما لم يأتِ به الأولون من أسلاف المرجئة ، ومهدوا لما سنلقي

عليه نظرة عاجلة في واقع المجتمع الإسلامي .

ونقض مذهب الإرجاء يكون بطريقتين : أحدهما : عام ، يتناول نقض مبادئهم

في النظر إلى الشريعة – وهو ما اشتركت فيه معهم سائر أهل البدع والأهواء – ،

والآخر : خاص ، يتناول الرد على أقوالهم قولاً قولاً ، وبيان فسادها بالأدلة

الشرعية .

وسنتناول كل طريق منهما بشكل موجز ، يتناسب مع ما قدرناه لهذا المقال من

إيجاز .

أولاً – الرد العام :

سلك أهل البدع والأهواء طرقاً معينة في دراستهم للنصوص الشرعية ، أدت

بهم إلى النتائج التي وصلوا إليها ، نجملها فيما يلي :

1- عدم الجمع بين أطراف الأدلة ، وذلك باتباعهم أول دليل يرونه دالاً – من

جهة معينة – على ما أرادوه ، فإذا صادفوا دليلاً آخر لم يجمعوا بينه وبين الأول ،

بل أولوه أو ضعفوه أو أخفوه ! بينما (مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على

أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المترتبة

عليها ، وعامها المترتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها

المفسر بمبينها ، إلى ما سوى ذلك من مناحيها) .

2- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ، مع ترك الأحاديث

الصحيحة وإغفالها ، بينما مسلك أهل السنة هو في اتباع الحديث الصحيح وما يصح

الاحتجاج به في الأحكام الشرعية ، سواء ما صح أو حسن حسب قواعدهم في ذلك .

3- التعويل على جزيئات الشريعة دون ربطها بالقواعد الكلية التي تحكمها

وتنتظمها .

4 – تحريف الأدلة عن مواضعها ، وهو نوع من تحريف الكلم عن مواضعه

الذي ذمه الله تعالى في كتابه ، وذلك بإيراد الدليل المقصود به مناط معين أو واقعة

محددة لتطبيقه على مناط آخر – أو واقعة أخرى – وهي العملية التي تسمى عند

الأصوليين : (تحقيق المناط) ، ولا شك أن (من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلام

عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له وجهل يصده عن الحق ،

مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً) .

فإطلاق الدليل وتوهم أنه يعم كافة الحالات الداخلة تحته دون تقييد فهو من

جملة من حرف الكلم عن مواضعه وصار إلى الابتداع بدلاً من الاتباع .

[الاعتصام 1/223] .

ثانياً – النقض الخاص :

إن ما استدلت به المرجئة من أن الإيمان هو التصديق فليس بصحيح ، والحق

أن الإيمان اسم شرعي استعمله الشارع ليدل به على معاني محددة في الشرع ، هي

مجموعة الأقوال والأفعال التي يتركب منها ، فلا مدخل للمعنى اللغوي إذ (مما

ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرِف تفسيرها وما أُريد

بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال

أهل اللغة وغيرهم) .

[ الإيمان لابن تيمية : 245 ]

هذا إلا أن الإيمان لا يعني لغة التصديق من وجوه عدّة (فإنه يقال للمخبر إذا

صدقته : صدقه ، ولا يقال : آمنه وآمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال : فَآمَنَ

لَهُ لُوطٌ ، وقال : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ « فإن تعدى باللام كقوله : آمن له ،

كان تصديقاً وإن تعدى بالباء كان الإيمان الشرعي المتضمن للعمل .

[ الإيمان : 248 ]

كذلك فإن قسيم الإيمان ليس التكذيب بل الكفر ، فيقال لمن لم يصدق : قد

كذب ، ومن لم يؤمن : قد كفر .

ووجه آخر في لفظ التصديق والتكذيب : يطلق على ما هو غائب أو مشاهد ،

أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغيب [ الإيمان : 249 ] .

والإسلام والإيمان اسمان يدلان على معنى واحد إن انفردا ، وهو الاستسلام

لله والعبودية له سبحانه ظاهراً وباطناً ، لكنهما إن اجتمعا دل كل منهما على معنى

غير الآخر ، فدلّ الإسلام على الأعمال الظاهرة من الصلاة والصوم والحج ، ودلّ

الإيمان على الأعمال الباطنة ، كالخشية والمحبة والخوف ، من أعمال القلوب .

وقد دلت الآيات والأحاديث على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان – وعليه

أجمع الصحابة والتابعون وسلف الأمة – فهو : قول وعمل ، يزيد وينقص ، يزيد

بالطاعات ، وينقص بالمعاصي ، قال تعالى : لِيَزْدَادُوا إيمَاناً مَّعَ إيمَانِهِمْ .

وما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه

وسلم – : « الإيمان بضع وسبعون شعة أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله

إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان » .

كذلك ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس ، قال

رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم

رمضان ، وأن تؤدي خمساً من المغنم » .

فالإيمان – إذن – قول وعمل ، قول القلب وهو : التصديق ، وعمل القلب :

وهو : الإقرار والخضوع المستلزم للمحبة والانقياد ، وقول اللسان : وهو : النطق

بالشهادتين ، وعمل اللسان والجوارح ، وهو العمل بالطاعات ، وترك المحظورات

من الشريعة ، وهو يزيد وينقص .

ثم ننظر إلى استدلال المرجئة – سلفاً وخلفاً – بأحاديث الشفاعة على أن قول

الشهادتين تلفظاً يُثبت لصاحبة الإسلام والإيمان ، وإن أتى عملاً من أعمال الكفر ،

كترك التحاكم إلى الشرع ، فنرى أنها هي طرق أهل البدع في عدم جمع أطراف

الأدلة ، والنظر في الأحاديث .

قالوا : روى مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب في حديث جبريل : قال : قال

رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد

رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن

استطعت إليه سبيلاً » .

وأغفلوا الرواية التالية لها مباشرة في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال

رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ،

وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان » .

كذلك حديث أركان الإسلام الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر عن

أبيه ، قال عبد الله : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « بُني الإسلام على

خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء

الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان » .

وأغفلوا رواية مسلم الأخرى : في الباب نفسه عن ابن عمر عن النبي -صلى

الله عليه وسلم- قال : « بُني الإسلام على خمسة : على أن يُوحَّد الله ، وإقام

الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، والحج » .

وغير ذلك من الأحاديث التي ذكروا فيها رواية وأسقطوا روايات ، والتي تدل

على أن التلفظ بالشهادتين المعتبر شرعاً هو توحيد الله وعبادته ، وترك الشرك ،

وأن التلفظ بالشهادتين دلالة على قيام ذلك المعنى في النفس وفي البدن قولاً وعملاً ؛

ما لم يأت بعمل ظاهر َيكْفُر به ، فلا اعتبار حينئذ بتلفظ ، وهو المعنى الذي ذكره

ابن القيم في إعلام الموقعين من أن الألفاظ تراد لمعانيها لا لذواتها وما فصله من

اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ .

[مسلم بشرح النووي 1/157]

وبعد .. فما هي الدوافع التي أدت إلى ظهور المرجئة في التاريخ ؟ وما هي

عوامل بقائهم واستمرارهم ؟ لذلك الأمر تفصيل يضيق عنه نطاق هذا المقال ولكن

لا بد من كلمتين توفيان بالغرض في هذا المقال .

أما عن بداية الإرجاء فقد زعم بعض من تناول ذلك الأمر أنها ترجع إلى

موقف بعض الصحابة إبان إطلال الفتن برأسها عند إرهاصات قيام الدولة الأموية ،

وهم الذين لم يشاركوا في تلك الفتن إلا أننا نرى أن ذلك تزيد معيب على تلك الفترة

يحمّلها أكثر مما تطيق ، ويجعلها نواة كل فساد ظهر في تاريخ المسلمين بعدها ، وما

اعتزل بعض الصحابة الفتنة إرجاءً بل إن منهم من لاح له وجه الصواب فاتبعه ،

ومنهم من غمض عليه جلية الأمر فآثر السلامة وحسب .. ! وهو موقف معتاد في

مثل تلك الظروف أن يشارك البعض ويعتزل البعض الآخر ! ، ولعل بعض

المفكرين يخرج علينا بأن هؤلاء – كذلك – هم نواة المعتزلة ؛ لاعتزالهم ذلك الأمر!.

[ انظر إعلام الموقعين 3/105 ]

 

وما نرتضيه في هذا المقام إيجازاً أن مذهب الإرجاء يتناسب مع من يتميع في

موقفه ويؤثر السلامة على المخاطرة وإن كانت بالباطل ، فإن من تلفظ بالشهادتين

مؤمن كإيمان جبريل ! والأعمال لا تدل على إيمان وفسق أو حتى كفر ، وليس لنا

أن نزيف الباطل ونظهر عوار المفسد وندل على سوءاته ونسير فيه سيرة رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- في معادلة الفاسق أو المذنب أو الكافر ، فمن ثم فهو

مذهب يتناسب مع الحاكم الظالم – أو الحاكم الكافر حسب الحالة – فلن يثير أرباب

هذا المذهب خلافاً مع الحاكم مهما أتى من أفعال ، فهو مؤمن على كل حال ، أليس

يتلفظ بالشهادتين ؟ ! ثم ما لنا ندخل في سرائر الناس وندعي معرفة مكنونات

صدورهم ، مادام العمل الظاهر لا مدخل له في قضية الإيمان ، وأن اعتقاد القلب

هو المعوّل عليه في ذلك ، أليس يكفي ما ينطق به الحاكم لنكون معه في صف واحد

ومسيرة واحدة نهادنه ونتعذر له المرة تلو المرة لنظل نعيش نتفيأ ضلال حكمه ،

وإن ظهرت منا في بعض الأحيان – أو كلها – معاتبة أو معارضة فإنما هي معاتبة

التصديق ، ونصح الأخ المؤمن لأخيه ، أو هي معارضة الخاضع ، وتبرم السائر

تحت اللواء ! .

ثم عامل آخر قد يكون له بعض الأثر في إطلال الإرجاء برأسه ، بل هو إلى

عوامل استمراريته أقرب – وهو ظهور طوائف المنتسبين إلى مذهب الخوارج فكراً

وعقيدة – وإن لم يكن بالضرورة اسماً – مما يزين لمن لم يتعمق النظر في دراسة

العقائد وترجيح الصالح من الفاسد من الآراء – وغالبهم من الشباب على مر التاريخ

دون رءوس الفتنة الذين يعون ما هم عليه من البدعة ، بل وبعضهم يقصد إليه

قصداً – أن ينتسب إلى فكر الإرجاء قولاً وعملاً – دون تسمية ودون وعي منهم

بذلك ولا إدراك لحقيقة مذهب السلف الصالح ، وهذا التصرف كرد فعل غير

مدروس للأفكار التي تجنح للتطرف والغلو في فهم العقيدة في الجانب الآخر ، وكلا

جناحي الإفراط والتفريط إن هي إلا ردود أفعال سلبية للحكم غير المشروع الذي

يسود المجتمعات الإسلامية في أي عصر من عصورها .

فالإرجاء إذن مذهب سياسي – أو قل : موقف سياسي – اتخذ طابع البحث

في أوليات العقائد مع استشراء تلك الموجة في بداية عصر الأمويين وظهور علم

الكلام – كما بينا عوامل ذلك في مقدمة أسباب الاختلاف – كان موقفاً سياسياً في

الحكام الظالمين ، يوم أن كانوا لا يزالون يحكّمون شرع الله ، وإن تجاوزوا الحد

وأفرطوا في الظلم ، ثم استمر على ذلك النهج منهجاً للضعاف ممن يريدون مهادنة

الظالم وتبرير مواقف الضعف والخزي ، حتى وإن تجاوز الظلم إلى الكفر ، ومن

هنا نرى أن المرجئة لم يكونوا هدفاً للسلطة الغاشمة الظالمة في عصر من العصور،

بل كان منهم شعراء وعمال للحكام ، كثابت قطنة الذي كان والياً ليزيد بن المهلب

على بعض الثغور ، بل إنه مذهب يصلح أن يدعيه الحاكم نفسه ليكون برداً وسلاماً

على كافة الطوائف المبتدعة .

فالمرجئة – إذن – في صلحٍ خفي ومهادنة غير مكتوبة مع الحاكم يتمتعون

بالحرية في الحركة والقول جميعاً ، بينما يُضرب على يد من سواهم من أهل السنة

والجماعة ، كما حدث لأئمة الفقه والحديث ، كمالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية ،

وكثيرين غيرهم ممن اتبعوا منهج السلف الصالح في الفهم عن الكتاب والسنة .

وليست هذه هي الكلمة الأخيرة عن الإرجاء والمرجئة كما قدمت في أول

المقال ، ولكنها نفثة غلت في الصدر وارتجّ بها القِدْرُ ، فلم يكن بُدِّ من إظهارها ! .

وقد اتبعت فيها مذهباً أراه يعين الباحث في مثل تلك الأمور ، وهو التحليل

النفسي لفهم الدوافع وراء تلك العقائد المنحرفة ، وهو مذهب ارتضيناه في أسباب

الاختلاف وسنجعله بعون الله تعالى أحد مصادرنا في دراسة أمثال تلك الفرق التي

تحمل معول الهدم والخراب لتهدم به صرح الإسلام من داخله ، عارفةً بذلك أو

جاهلةً .

واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ .

________________________

 

تعليقات المستخدمين

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يمكنك قراءة

  • 10 ربيع الأول 1442 هـ
    من روائع التفسير الأولى

    من روائع التفسير الأولى

  • 08 ربيع الأول 1442 هـ
    ترجمة لشيخنا العلامة الشهيد الحاج سليمان ميلودي العمراوي الحسني

    ترجمة لشيخنا العلامة الشهيد الحاج سليمان ميلودي العمراوي الحسني

  • 11 ربيع الأول 1442 هـ
    الاحتفال بالعيد الوطني أم باليوم الوطني

    الاحتفال بالعيد الوطني أم باليوم الوطني