أسباب النصر على الأعداء (من سورة الأنفال )
28-10-2020 1632 مشاهدة
بسم الله الرحمن الرحيم
من أسباب النصر والتمكين
الحمد لله الذي أرسل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والحمد لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض وتصريف الأمور كما يشاء تصريفاً لا يخرج عن فضله أو عدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو أن نكون بها ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل خلقه – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل من اهتدى بهديه وسلم تسليماً -، أما بعد:
فلا يخفى على أحدٍ من الناس اليوم ما يعيشه المسلمون من ذلةٍ ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة، وأحوال مريرة؛ تتمثل في كيد الأعداء وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم، وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم من بُعْدٍ عن تعاليم الإسلام، وإقصاء وتنحية لشريعة الله سبحانه، ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.
إنَّ الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم لا يستغرب من قبل العالمين بسنن الله – تبارك وتعالى – في التغيير، حيث إنَّ هذا الواقع هو النتيجة الطبيعية للبعد عن دين الله – تبارك وتعالى -، وعدم الاستسلام لشرعه، ولا ننتظر في ضوء السنن الربانية غير هذا، والله – تبارك وتعالى – يقول: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}1، ويقول الله – سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}2، أما الذين يجهلون سنن الله – تبارك وتعالى -، أو يغفلون عنها وينسونها؛ فهم الذين يستغربون ما يحل بالمسلمين اليوم من محنٍ وويلات، وهم الذين يتساءلون أنى هذا؟ وكيف يحصل هذا ونحن أصحاب الدين الحق؟
فيجيبهم الله – تبارك وتعالى – بما أجـاب به من سأل من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – مثل هذا السؤال فقال الله – سبحانه وتعالى -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}3،
ونتيجة لنسيان هذه السنة الربانية أو الغفلة عنها؛ يقع الانحراف في المواقف المختلفة إزاء هذه الأحوال المريرة التي يمر بها المسلمون ما بين يائسٍ من التغيير قد أصابه الإحباط، وألقى بيده ينتظرُ المهدي أو المسيح – عليه السلام – لإنقاذ الأمة، والتمكين لها في الأرض، أو مستعجل قد نفد صبره مما يرى من الكفر والنفاق، فقرر الجهاد المسلح والمواجهة مع أعداء الدين غير ملتفت للقواعد الشرعية، وأصول التمكين، وأسباب النصر؛ فنجم عن ذلك من المفاسد الكثيرة ما الله بها عليم، وآخر رأى مهادنة الأعداء، والرضا منهم بأنصاف الحلول، والدخول معهم في مفاوضات ومقايضات لم تـثمر إلاَّ مزيداً من التمكين للمفسدين، والإقرار لهم بالشرعية والوجود.
أما الذين فقهوا سنن الله – تبارك وتعالى – في النصر والتمكين والتغيير، وأخلصوا دينهم لله – تعالى -؛ فقد هداهم ربهم سبحانه لما اختلف فيه من الحق، ورأوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها، وذلك بما كان عليه الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
أولاً: الإيمان بالله – تبارك وتعالى – والعمل الصالح:
وعد الله – تبارك وتعالى – المؤمنين بالنصر المبين على أعدائهم وذلك بإظهار دينهم، وإهلاك عدوهم وإن طال الزمن قال – تعالى -: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}4،
وقال الله – تبارك وتعالى -: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}5،
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}6، والمؤمنون الموعودون بالنصر هم الموصوفون بقوله – تعالى -:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}7،
وقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}8،
وقال – تعالى -: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}9،
وقال – تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}10، فعلق الله – تبارك وتعالى – الوعد بالتمكين هنا بأربعة أمور هي:
1- وجود الجماعة المؤمنة وتحقق الإيمان فيها.
2- عمل الصالحات: من القيام بشرائع الدين، وتنفيذ أوامر الله عملاً وليس ادعاءً فقط.
3- التزام نهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين لقوله: {مِنْكُمْ}، فالخطاب لهم، وينسحب على من نهج نهجهم.
4- انتفاء الشرك في العبادة قال الله – تبارك وتعالى -: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}11.
ثانياً: نصر دين الله – تعالى -:
ومن أعظم أسباب النصر نصر دين الله – تبارك وتعالى -، والقيام به قولاً، واعتقاداً، وعملاً، ودعوةً قال الله – تبارك وتعالى -: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}12، فالعاقبة للمتقين، وبمجرد أن يلتزم المؤمن بدين الله – تبارك وتعالى – ظاهراً وباطناً، وينصر دين الله – تعالى -؛ يأتي النصر بإذنه – تبارك وتعالى – قال الله – تبارك وتعالى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}13
قال العلامة ابن سعدي – رحمه الله -: "هذا أمر منه – تعالى – للمؤمنين أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك نصرهم الله، وثبت أقدامهم أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر من الثبات وغيره؛ وأما الذين كفروا بربهم، ونصروا الباطل فإنهم في تعس، أي: انتكاس من أمرهم وخذلان14"، وقال – تعالى -: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}15.
ثالثاً: التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
التوكل على الله – تبارك وتعالى – مع إعداد القوة من أعظم عوامل النصر، وذلك لقوله – تبارك وتعالى -: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}16، وقال – سبحانه -: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ}17، قال القرطبي – رحمه الله – في تفسير الآية: "أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغبلوا {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} يترككم من معونته18"، وقال العلامة ابن سعدي – رحمه الله -: "أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعدد، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد، وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه، {وَإِن يَخْذُلْكُمْ}ويكلكم إلى أنفسكم {فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ}، فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق19"،
وقال – تعالى -:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}20،
وقال – سبحانه -: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}21،
وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}22،
وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً))23، ولا بد مع التوكل من الأخذ بالأسباب، لأن التوكل يقوم على ركنين عظيمين:
1- الاعتماد على الله – تبارك وتعالى -، والثقة بوعده ونصره – تعالى -، فما خاب من توكل عليه.
2- الأخذ بالأسباب المشروعة.
وإذا لم توجد الأسباب فهو توكل كاذب بل هو تواكل، ولهذا قال الله – تبارك وتعالى – حاثاً على العمل بالأسباب: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}24، وعن أنس – رضي الله عنه -: "أن رجلاً قال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: ((اعقلها وتوكل))25.
رابعاً: الثبات عند لقاء العدو:
من عوامل النصر الثبات عند اللقاء، وعدم الانهزام والفرار، فقد ثبت النبي – صلى الله عليه وسلم – في جميع معاركه التي خاضها كما في بدر وأحد وحنين، فعن البراء – رضي الله عنه -أنه قال له رجل: يا أبا عمارة وليتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولى النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولكن ولى سرعان الناس، فلقيتهم هوازن بالنبل، والنبي – صلى الله عليه وسلم – على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب))26،
وثبت أصحابه – رضوان الله عليهم – من بعده، وهو قدوتنا وأسوتنا الحسنة قال الله – تبارك وتعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}27، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتباً له قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى – رضي الله عنهما – فقرأته: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس خطيباً قال: ((أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأهزاب؛ اهزمهم وانصرنا عليهم))28.
خامساً: الشجاعة والبطولة والتضحية في سبيل الله – تبارك وتعالى -:
ومن أسباب النصر: الاتصاف بالشجاعة، والتضحية بالنفس، والاعتقاد بأن الجهاد لا يقدم الموت ولا يؤخره؛ ولهذا قال – تعالى -: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}29، وقال الشاعر:
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد30
ولهذا كان أهل الإيمان الذين امتلأت قلوبهم إيماناً هم أشجع الناس، وأكملهم شجاعة؛ هو إمامهم محمد – صلى الله عليه وسلم -، وقد ظهرت شجاعته في المعارك الكبرى التي قاتل فيها، ومنها على سبيل المثال:
1- شجاعته – صلى الله عليه وسلم – البطولية الفذة في معركة بدر، فعن على – رضي الله عنه – قال: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأس31"، وقال – رضي الله عنه -: "كنا إذا حمي البأس، ولقي القوم القوم؛ اتقينا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه32" وفي رواية: "كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم؛ اتقينا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه33".
2- وفي معركة أحد قاتل قتالاً بطولياً لم يقاتله أحداً.
3- وفي معركة حنين: لما ثبت على بغلته أمام الكفار، ودعا أصحابه إليه.
وهكذا كان أصحابه – رضي الله عنهم – ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان، فينبغي للمجاهدين البواسل المرابطين في الثغور أن يقتدوا بنبيهم – صلى الله عليه وسلم – فيكونوا مثله قال الله – تبارك وتعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}34.
سادساً: كثرة الدعاء وكثرة ذكر الله:
ومن أعظم وأقوى عوامل النصر الاستغاثة بالله – تبارك وتعالى -، وكثرة ذكره، لأنه القوي القادر على هزيمة أعدائه، ونصر أوليائه قال – تعالى -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}35، وقال – تعالى -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}36، وقال الله – جل وعلا -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ}37، وقد أمر الله – تعالى – بالذكر والدعاء عند لقاء العدو فقال الله – تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}38، لأنه سبحانه النصير والمعين فنعم المولى ونعم النصير قال – تعالى -: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}39، ولهذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعو ويستغيث ربه – تبارك وتعالى – في معاركه؛ فينصره ويمده بجنوده، ومن ذلك ما ثبت من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: "نظر نبي الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله – صلى الله عليه وسلم – القبلة، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رادءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: "يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، إنه سينجز لك ما وعدك!! فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ}40"41، فأمده الله بالملائكة، وهكذا كان – صلى الله عليه وسلم – يدعو الله في جميع معاركه، فعن عبد الله بن أبي أوفى – رضي الله عنهما – يقول: دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الأحزاب على المشركين فقال: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم))42، وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا غزا قال: ((اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل))43، وعن أبي بردة بن عبد الله – رضي الله عنه – أن أباه حدثه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا خاف قوماً قال: ((اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم))44، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما -: " {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}45، قالها إبراهيم – عليه السلام – حين ألقي في النار، وقالها محمد – صلى الله عليه وسلم – حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}46"47، وهكذا ينبغي أن يكون المجاهدون في سبيل الله – تبارك وتعالى – لأن الدعاء يدفع الله به من البلاء ما الله به عليم، ولهذا روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أبي عثمان النهدي عن سلمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر))48.
سابعاً: عدم العجب والاغترار بالقوة والكثرة:
فإن العجب والاغترار بالنفس والقوة والعدة والعتاد سبب في وقوع الهزيمة وحلولها بمن هذا حاله قال الله – تبارك وتعالى -:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}49، فالنصر ليس بكثرة العدة والعتاد فقد قال الله – تبارك وتعالى -: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}50 قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره: "ذكر – تعالى – للمؤمنين فضله عليهم، وإحسانه لديهم؛ في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك من عنده – تعالى -، وبتأييده وتقديره، لا بعَددهم ولا بعُددهم، ونبههم على أن النصر من عنده سواء قلَّ الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً، فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم أنزل الله نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه51"، وقال العلامة ابن سعدي – رحمه الله -: "يمتن – تعالى – على عباده المؤمنين، بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء، ومواضع الحروب والهيجاء، حتى في يوم حنين الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة، ورأوا من التخاذل والفرار ما ضاقت عليهم به الأرض على رحبها وسعتها، وذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما فتح مكة سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه، فسار إليهم – صلى الله عليه وسلم – في أصحابه الذين فتحوا مكة، وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة، فكانوا اثني عشر ألفاً، والمشركون أربعة آلاف، فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم، وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة؛ فلما التقوا هم وهوازن حملوا على المسلمين حملة واحدة فانهزموا لا يلوي أحد على أحد، ولم يبق مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا نحو مئة رجل، ثبتوا معه، وجعلوا يقاتلون المشركين، وجعل النبي – صلى الله عليه وسلم -، يركض بغلته نحو المشركين ويقول: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب))52؛ ولما رأى من المسلمين ما رأى أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقية المسلمين، وكان رفيع الصوت، فناداهم: يا أصحاب السمرة، يا أهل سورة البقرة؛ فلما سمعوا صوته عطفوا عطفة رجل واحد، فاجتلدوا مع المشركين، فهزم الله المشركين هزيمة شنيعة، واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم53".
ثامناً: الاجتماع وعدم التفرق والتنازع:
لا يخفى على أحد من الناس أهمية جمع كلمة المسلمين، وأن ذلك سبب في النصر على عدوهم، وقد أمر الله – تعالى – بالاجتماع في آيات كثيرة محذراً منه، وداعياً لهم بالاعتصام بحبله المتين، وأخبر أن التفرق والتنازع سبب في حصول الفشل والهزيمة فقال سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}54 قال الإمام الشنقيطي – رحمه الله -: " نهى الله – جل وعلا – المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع أخر كقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}55 ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: قوتكم"56.
والخلاصة: أنه لا بد من الرجوع إلى دين الله – تبارك وتعالى – بصدق حتى نستحق النصر على الأعداء، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً حتى يستحقوا النصر على الأعداء، ونسأله أن يوحد صفهم، ويقوي شوكتهم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
1 سورة الرعد (11).
2 سورة محمد (7).
3 سورة آل عمران (165).
4 سورة غافر (51).
5 سورة غافر (52).
6 سورة الروم (47).
7 سورة الأنفال (2).
8 سورة الأنفال (3-4).
9 سورة النساء (141).
10 سورة النور (55).
11 سورة النور (55).
12 سورة الحج (40-41).
13 سورة محمد (7-8).
14 تفسير السعدي (1/785).
15 سورة الصافات (171- 173).
16 سورة آل عمران (122).
17 سورة آل عمران (160).
18 تفسير القرطبي (4/254).
19 تفسير السعدي (1/154).
20 سورة آل عمران (159).
21 سورة الأحزاب (3).
22 سورة الفرقان (58).
23 رواه الترمذي برقم (2344)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ ورواه ابن ماجة برقم (4164)؛ وأحمد في المسند برقم (205)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي ورجاله ثقات رجال الشيخين غير عبدالله بن هبيرة فمن رجال مسلم، ورقم (370)، ورقم (373)؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (4154)؛ وفي السلسلة الصحيحة برقم (310).
24 سورة الأنفال (60).
25 رواه الترمذي برقم (2517)؛ وصححه ابن حبان في صحيح ابن حبان برقم (731)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن؛ وحسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2517)؛ وفي تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيفية علاجها برقم (22).
26 رواه البخاري برقم (2719و2772و4063)؛ ومسلم برقم (1776،و 1776).
27 سورة الأحزاب(21).
28 رواه البخاري برقم (2804)، ورقم (2861)؛ ورواه مسلم برقم (1742).
29 سورة النساء (78).
30 http://www.ahlalhdeeth.com.
31 رواه أحمد في المسند برقم (654)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير حارثة بن مضرب؛ ورواه ابن أبي شيبة برقم (32614).
32 رواه الحاكم في المستدرك برقم (2633)، وقال:هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه؛ وقال العراقي: إسناده صحيح في تخريج إحياء علوم الدين (2/467).
33 رواه أحمد في المسند أحمد بن حنبل برقم (1346)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
34 سورة الأحزاب (21).
35 سورة البقرة (186).
36 سورة غافر (60).
37 سورة الأنفال (9).
38 سورة الأنفال (45).
39 سورة الأنفال (10).
40 سورة الأنفال (9).
41 رواه الترمذي برقم (3081) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه من حديث عمر إلا من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل و أبو زميل اسمه سماك الحنفي وإنما كان هذا يوم بدر؛ وأحمد في المسند برقم (208)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن رجاله رجال الصحيح؛ وحسنه الألباني في صحيح الترمذي رقم (3081)؛ وقال الشيخ مقبل الوادعي: رجاله رجال الصحيح انظر: الصحيح المسند من أسباب النزول ص61.
42 رواه البخاري برقم (2775)، ورقم (2861)ورقم (3889)؛ ومسلم برقم (1742).
43 رواه أبو داود برقم (2632)؛ وأحمد في المسند برقم (23973)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم؛ وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2291)؛ وفي السلسلة الصحيحة برقم (2459).
44 رواه أبو داود برقم (1537)؛ وأحمد في المسند برقم (19734)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن؛ وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1360).
45 سورة آل عمران (173).
46 سورة آل عمران (173).
47 رواه البخاري برقم (4287).