الفتاوى الشرعية وأهميتها في حياة الناس

14-11-2020 844 مشاهدة

الحمد لله شرع لنا دينا قيما وهدانا صراطا مستقيما ، واصلي واسلم على سيدنا ونبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وبعد فيقول الفقير إلى عفو ربه أبو موسى ، مختار بن العربي مومن الجزائري ثم الشنقيطي ، هذه أجوبة على أسئلة عدة دورات منها في تونس 2012، والجزائر في عدة دورات بالعاصمة ووهران وبشار والمشرية وغيرها ، والمغرب 2014 ، وكثيرا منها ورد عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وارتأيت جمعها والتوسع في الإجابة عليها عسى الله أن ينفع بها ،ويجعلها لنا ذخرا يوم لاينفع مال ولابنون ونسأله الإخلاص في القول والعمل والقبول وحسن الختام .
مقدمة :
لقد أكرم الله أمة محمد  بخير معلم لها ، يفقههم في دين الله ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، وقد أتم الله على يديه نور الإسلام ،وأكمل له دين الحق ،ورضيه لنا دينا ، قال تعالى :  اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا  ، وقال سبحانه ﴿ إنّ الدّين عند الله الإسلام ﴾،وقد سدده الله بشريعة كاملة تامة صالحة لكل عصر ، ممكنة التطبيق في كل مصر ، يستخلص الفقهاء من أصولها أحكاما تتماشى مع ما استجد من المشكلات ، وتحلّ ماعسر من المعضلات ، وتتكيّف مع جميع الأعراف والعادات فإذا هي يسيرة سمحة تجذب النّافرين ، وتهدي الضالين ، وتنير الطريق للمهتدين ، قد شرب من أصول تلك الشريعة فئام فانتفعوا ونفعوا ، وتحمل ءاخرون فارتووا وبلّغوا ، وحرم المحرمون فما ذهبوا ولا أتوا ،فعن أبي موسى- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال:
«مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .
قال المهلب: فيه ضرب الأمثال فى الدين، والعلم، والتعليم، وفيه: أنه لا يقبل ما أنزل الله من الهدى والدين إلا من كان قلبه نقيا من الإشراك والشك. فالتى قَبِلَت العلم والهُدى كالأرض المتعطشة إليه، فهى تنتفع به فتحيا فتنبت، فكذلك هذه القلوب البريئة من الشك والشرك، المتعطشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وَعَت العلم حَيَتْ به فعملت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه.
ومن الناس من قلوبهم متهيّئة لقبول العلم لكنّها ليس لها رسوخ، فهى تقبل وتمسك حتّى يأتى متعطّش فيروىَ منها ويَرِدُ على منهل يحيا به، وتسقى به أرض نقيَّة فتنبت وتثمر، وهذه حال من ينقل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه.
ومنها قيعان – يعنى قلوبًا تسمع الكلام، فلا تحفظه، ولا تفهمه، فهى لا تنتفع به، ولا تنبت شيئًا، كالسِّباخ المالحة التى لا تمسك الماء ولا تنبت كلأ” اهـ .
لقد نشأ على ضوء هذا الحديث جيل الصحابة الفقهاء الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم في حلّه وترحاله ، وسلمه وحربه، وفي سائر أحواله ، فتفقهوا من ينابيع هديه، واستقوا من أنوار حكمته ، وعملوا على مسمع ومرأى من عينه ، فكانوا هداة فاتحين، وفقهاء حكماء عاملين ، وأخذ كل منهم بحسب مافتح الله عليه من الفهم والوعي من مصاحبته صلى الله عليه وسلم، فكانت منهم زمرة من العلماء النجباء الذين مهدوا الفقه وسطروه عملا واقعيا يعيشونه مع الناس في واقع حياتهم ، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله أن عدد الفقهاء من الصحابة الذين بلغوا درجة الاجتهاد وأخذت عنهم الفتوى ثمانية عشرة صحابيا، وأحصى النّسائي عدتهم بواحد وعشرين رضي الله عنهم .
وقال ابن القيم : ” والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مائة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر” .
وحفظ عنهم الكثير من الفتاوى المنثورة التي جمع من بعضها أجزاء ، ولربما مجلدات ،” قال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – في عشرين كتابا وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.ومن بعضها الآخكل واحد منها لكانت مجلدات إلا أنها لم تكن في سائر أبواب الفقه ” .
و لقد رزقهم الله تلامذة أوفياء ساروا على نهجهم، وأخذوا زبدة علمهم ، فصاروا قدوة النَّاس، ومعلمي العالم الإسلامي ، وانحصر فقه أولئك الصّحابة الأخيار أو كاد في سبعة من تلامذتهم اشتهروا بالفقهاء السّبعة: وهم سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار.
واختلف في السابع، فقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل : سالم بن عبدالله، وقيل: أبوبكر بن عبد الرحمن، ونظم ذلك بعضهم ذاهبا إلى القول الثالث فقال:
ألا كل من لم يقتد بأئمــة فقسمته ضيزى عن الحقّ خَارِجَه
فَخُذْهُمْ: عبيدالله عروة قاسـم سعيد أبوبكر سليمان خارجــه
وعن هؤلاء وأمثالهم أخذ مالك رحمه الله وغيره الفقه والحديث والتفسير وسائر العلوم النافعة ، ومذهب الإمام مالك عمري قال عنه ابن تيمية رحمه الله : ” لا ريب عند أحد أن مالكا – رضي الله عنه – أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا؛ فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقومَ بذلك منه كان له من المكانة عند أهل الإسلام – الخاص منهم والعام – ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام” .
وقال أيضا ” إن مالكا أخذ جُلَّ (الموطأ ) عن ربيعة ،وربيعة عن سعيد بن المسيب؛ وسعيد بن المسيب عن عمر؛ وعمر محدث” . ،

نص الفتوى

أهمية الفتوى وخطرها في الدين : فمن المعلوم بداهة أن الناس عالم وضدّه ،وقد أرشد الذّكر الحكيم الذين لايعلمون أن يستفتوا في مسائل دينهم أهل العلم فقال سبحانه :  فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون  ، ولايحل للمسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه قال سبحانه :  ولاتقف ماليس لك به علم  ، ولايحل للعالم أن يكتم علما علمه الله إياه قال تعالى :  إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ  [البقرة: 159]. ويشترط أن يكون عالماً بالحكم، أو متمكناً من تحصيل العلم به، فإن لم يكن كذلك حرمت عليه الإجابة؛ لأنه حينئذ يكون قائلاً على الله بغير علم، ومفتياً على جهل، فيكون إفتاؤه ضلالاً وإضلالاً. وثانياً: في شرط وجوب الكلام والبيان للحكم أن تكون المسألة قد وقعت، فإن لم تكن وقعت لم يجب الجواب؛ لعدم ضرورة السائل وحاجته إليها، اللهم إلا أن يكون السائل طالب علم يريد معرفة حكمها لعلها تقع، وجبت إجابته حينئذ. وثالثاً: أن لا يترتب على الفتوى مفسدة أعظم من السكوت عنها؛ لأن المفسدة لا تزال بمفسدة أعظم منها، وقد ترك النبي ﷺ إعادة بنيان الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام لما كان أهل مكة حدثاء عهد بالجاهلية، وخشي النبي ﷺ أن يكون تغيير بنيان الكعبة سبباً لصدهم عن الدين وفتنتهم، وذلك مثل ما يفهم كثير من العامة حديث: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فيفعلون من المعاصي ما يفعلون ظناً منهم بأن مجرد قول هذه الكلمة كافٍ في دخول الجنة، وهذه الكلمة لها شروط وأحكام وواجبات ومستلزمات، كلمة عظيمة، لكنهم لا يفهمون مستتبعاتها وشروطها فيتورطون في أوحال المعاصي والآثام وترك الواجبات. وقال علي بن أبي طالب: "حدثوا الناس على قدر عقولهم، أتريدون أن يكذب الله ورسوله". وقال عبد الله بن مسعود: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". ورابعاً من أسباب إيجاب الجواب على المفتي: أن يكون المستفتي طالباً للحق باحثاً عنه، فإن كان يسأل تعنتاً، ومفاخرة، ومباهاة، وإحراجاً، وإظهاراً لعلمه، أو يسأل طلباً لفتيا يتلاعب بها، ويحرفها، ويجعلها حجة على باطله، أو يسأل لتحصيل ما وافق هواه، فيأخذ إن وافق ويرد إن لم يوافق هواه ويبحث عن مفتٍ آخر لم يجب جوابه حينئذ. ثم إن قضية الإفتاء ومنصبه خطيرة جداً في الدين، ولذلك وصف العلماء المفتي بأنه موقع عن الله، فالمفتي يوقع عن الله، ويقول: إن هذا الحكم هو حكم الله في هذه المسألة، ومن هنا كانت خطورة الفتوى وتحريم الفتوى بغير علم، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ سورة الأعراف33. فجعل الكلام على الله بلا علم، الفتوى بغير علم قرينة للشرك؛ لأنه قال: وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ سورة الأعراف33، هذا حرمه، وقال  محذراً: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ سورة النحل116. وقال : قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ سورة يونس59. وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً في الإفتاء بغير علم، وأن لا يقول شخص شيئاً في الدين إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفترٍ على الله. وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، » البخاري . وعليه فيجب على العالم أن يبين الأحكام للناس ويعلمهم أمر دينهم ، وكثيرا ماتستثار الأسئلة عقب الدروس ، وعلى الجاهل أن يسأل فلاعذر له يوم القيامة إن كان يجد من يسأله وقصر عن السؤال واقتحم العمل دون علم .وبالله وحده نستعين في بيان ماوردنا من أسئلة والجواب عليها على نهج علمائنا وأئمتنا ، ونسأله القبول والإخلاص إنه ولي ذلك سبحانه .