هل خُلق النبي ﷺ من نور؟
11-10-2022 1489 مشاهدة
هل خُلق النبي ﷺ من نور؟
الشيخ مختار بن العربي مؤمن
عضو مجلس الأمناء العامة بالهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام
الحمد لله الذي بعث في الأميين نوراً منیراً، ونبياً رسولاً، وبشيراً ونذيراً، إنه محمد ﷺ نبي الرحمة والملحمة. جاء بالهدى والخير، وأُرسل رحمة للعالمين والعالم يموج في ظلمات الشرك والجهل فأضاء بوجوده الكون، وتنور بمقدمه العالم.
وُلد الهدى فالكائنات ضياءُ وفم الزمان تبسم وثناءُ
مولد سيد الوجود
لقد ابتسم الكون لمقدمه، ورفرفت الملائكة لمولده، وتغنت الجن بمجيئه، وفرحت الكائنات وسلمت وحيت ورحبت بلقائه، إنه سيد الوجود محمد ﷺ، لقد كانت الدنيا مظلمة فاستنارت، وفم الزمان كالحا فابتسم.
وإنه لمن واجب أهل الإيمان والإسلام أن يفرحوا بمولد الهدى ﷺ فهو الذي أخرجنا الله سبحانه به من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الواجب معرفة سيرته واتباع سنته ونصر شريعته.
“من كذب عليّ متعمداً”
ومن النصر الذب عن حديثه بنفي المكذوب، وتثبيت الصحيح والحسن في المرهوب والمرغوب، ولقد ابتليت الأمة بالأفاكين المفترين على نبينا ﷺ منذ فجر الإسلام، وكان الخلفاء بعده يتثبتون في الرواية عنه ويحتاطون لذلك أشد احتياط خشية الكذب عليه، فهذا سيدنا عمر الفاروق يستوثق من سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، وهو مَن هو في ضبطه وصدقه، حمايةً للدين واحتياطاً لحديث سيد الأولين والآخرين.
فعن أبي موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يؤذن له، وكأنه كان مشغولاً، فرجع أبو موسى، ففرغ عمر، فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له، قيل: قد رجع، فدعاه فقال: كنا نؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبينة، فانطلق إلى مجلس الأنصار، فسألهم، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا؛ أبو سعيد الخدري. فذهب بأبي سعيد الخدري، فقال عمر: أخُفِيَ هذا عليَّ مِن أمر رسول الله ﷺ؟! ألهاني الصفق بالأسواق»(1). يعني الخروج إلى تجارة.
وهذا سيدنا عبد الله بن عباس يعرض عن الذين صاروا يتصدرون للحديث عن رسول الله ﷺ خشية الوضع، فقد جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث، ويقول: قال رسول الله ﷺ قال رسول الله ﷺ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله ﷺ، ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: “إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول قال رسول الله ﷺ، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب النّاس الصعب، والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف”(2).
وهذا من ضرب الأمثال، وهو في الإبل؛ فالصعب: العسر المرغوب عنه، والذلول: السهل الطيب المحبوب المرغوب فيه، والمراد بهذا المثل سلك الناس كل مسلك مما يحمد ويذم بعدما كانوا يحرصون على هدي النبي ﷺ وعلى الطريق المستقيم، وفي هذا إشارة إلى أنّ الحذر في أخذ الحديث بدأ في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم لما استجدّ عند النّاس من عدم التوقي لحديث رسول الله ﷺ، ولذلك قال: «لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف»، أي: توقفنا عن الأخذ من كل مُحدّث إلا بما نعلمه من أقوال وسُنن النبي ﷺ، ولم نأخذ من حديث الناس إلا الحديث الذي تُعرف ثقة نَقَلَته، وصحة مَخرجه. وهذا يحدث مع بيان الصحابة للحق وعدم سكوتهم على الكذب على النّبي ﷺ، وهكذا بيّن ابن عباس رضي الله عنهما الطريق الحق في التثبت والتأكد من المرويات عن رسول الله ﷺ.
كيف فسّر العلماء نورانية النبي ﷺ؟
نعم لقد وُلد سيدنا وحبيبنا محمد کالبشر ولكن كان خيراً من كل البشر لاختيار الله له، تربى يتيماً حتى لا تكون عليه مِنة الوالدين في تبليغ الدعوة، وجاء للوجود من غير إخوة حتى يُخلص خلته واستناده وتوكله على الله، حُرم عطف الأم وحنانها حتى يحن لله تعالى في كل أحواله، رباه الله وأيّده، ونصره وسدده، فكيف يحتاج لغيره، حُرم نعمة الولد في حياته بعد رحيلهم قبله حتى لا يتنازع الناس في مقام النبوة بعده.
هو النور كما قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿ قَدْ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، وإن لم يُخلق من نور كما يزعم الوضاعون والمفترون، زعماً منهم أنهم سيعلون مقامه بالكذب عليه، قال ابن جرير الطبري في تفسيره: “يَعني بالنور محمداً ﷺ الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام، ومَحَق به الشرك فهو نور لمن استنار به یبین الحق”(3).
وتبعه ابن كثير والجلال، وقال الألوسي: “قد جاءكم من الله نور عظیم، وهو نور الأنوار، والنبي المختار ﷺ”. وبه أيضاً صدر الفخر الرازي، ووالله لو صح الحديث لكنا أسعد الناس بصحته والإيمان بما جاء به، ولكن لم يصح فوجب علينا أن نكذب الكاذبين على سيدنا وقدوتنا ﷺ، ولقد سئل أحدهم لمَ تضعون الحديث وتكذبون على رسول الله ﷺ؟ فقال وبئس ما قال: “إنما نكذب له لا عليه! وما أعظمها من فرية بلا مرية، وكأن النبي ﷺ حاشاه قد قصر في البلاغ! أليس هو القائل: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»(4).
أحاديث مُختَلَقة
ووقوفاً عند مولده ﷺ أحببت أن أبيّن صحة تلك الروايات المُختلَقة التي وردت لتخبرنا أن النبي ﷺ خُلق من نور، ولقد التبس عليهم الأمر، بين نعت الله له بأنه نور من الله، وبين خلقه من نور، قال تعالى: ﴿ قَدْ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ ﴾، ففرْقٌ بين الرسول ووصْفه بالنور وبين الكتاب المبين الذي جاء به. ولقد أخبرنا الصادق المصدوق عن أصل خِلقته فقال كما في حديث عائشة، قالت: قال رسول الله ﷺ: «خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم». رواه مسلم، وهو ﷺ أحد بني آدم.
ولقد افترى الوضاعون حديثاً تداولته بعض كُتب الذين ليس لهم دراية بالصناعة الحديثية، لا سيما من الطرق الصوفية ومَن هم على شاكلتهم من غير أهل الحديث، فتناولوه بالشرح، وليتهم اكتفوا بما صح عما وُضع وطُرح، وإن هذه الأحاديث المكذوبة وأشهرها حديث روي وجادةً عن مصنف عبد الرزاق بن همام عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سأل رسول الله ﷺ عن أول شيء خلقه الله تعالى من المخلوقات فقال: “نور نبيك يا جابر خلقه الله وخلق بعده كل شيء وخلق منه كل خير”. وفي بعض الروايات هذا الخبر “خلقه وخلق منه كل شيء”، وهي المشهورة الكثيرة في التقاييد المحتوية على هذا الخبر إلى آخر خبر طويل جداً. وفي بعضها تقسيم هذا النور إلى عشرة أقسام وتعيين خلق كل نوع من الكائنات من قسم معين من الأقسام العشرة.
فنقول وبالله التوفيق إن مما هو معلوم عند المحدثين وجود قاعدة في علم الحديث، وهي أن من شرط الحديث حتى يكون صحيحاً أن يكون راويه من العدول الضابطين وليس فيه شذوذ ولا عِلة، ولا يوجد في هذا الحديث المكذوب سند يمكن أن يُعوَّل عليه، فضلاً أنه لا يوجد في مصنف عبد الرزّاق، وإن كنت رأيت من اختلق له سنداً عن معمر عن ابن المنكدر وأن من الشواهد الدالة على وضعه ركاكة ألفاظه ومعانيه، ولا ريب أن هذا الحديث من ذلك الصنف الذي تدل عليه ركاكة ألفاظه ومعانيه، ومخالفته لما جاء في الكتاب المبين، والأحاديث الصحيحة البينة الصريحة؛ فمن ذلك:
أولاً: أنه معارض للحديث الصحيح الذي رواه البخاري (٣١٩١) وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: دخلت على النبي ﷺ، وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال: «اقبلوا البشرى يا بني تميم»، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها تميم»، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر؟ قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض».
قال الحافظ ابن حجر: “وفيه دلالة على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما لأن كل ذلك غير الله تعالى ويكون قوله ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ ﴾ معناه أنه خلق الماء سابقاً ثم خلق العرش على الماء، وقد وقع في قصة نافع بن زيد الحميري بلفظ «كان عرشه على الماء ثم خلق القلم فقال اكتب ما هو كائن ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن» فصرح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش”.
ثم جمع الحافظ بين حديثي: القلم، وهذا الحديث بما يفيد قطعاً أن نور نبيك غير موجود في صحاح الكتب والسنن والمسانيد وغيرها، ثم قال الحافظ: فدل ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتُدئت إلى أن تُفنى إلى أن تُبعث، فشمل ذلك الإخبار عن المبدأ والمعاش والمعاد وفي تيسير إيراد ذلك كله في مجلس واحد من خوارق العادة أمر عظيم”(5)
قال البيهقي في (مختلف الحديث): “جمع بينه وبين ما تقدم عن الصحيحين وغيرهما من أولية خلق العرش والماء على خلق ما سواهما، أراد أن أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش القلم. وذلك بيّنٌ في حديث عمران بن حصين كما في الصحيحين عنه مرفوعاً، ثم خلق السماوات والأرض”.
وروى عبد الرزاق عن عمر بن حبيب أحد الثقات عن حميد بن قيس الأعرج عن طاووس الإمام قال:
جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فسأله “مم خُلق الخلق؟” قال: “من الماء والنور والظُّلمة والريح والتراب”. قال الرجل: “فمم خُلق هؤلاء؟” قال: “لا أدري”. ثم أتى الرجل عبدَ الله بن الزبير رضي الله عنهما فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، قال فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله فقال: “مم خلق الخلق؟” قال: “من الماء والنور والظلمة والريح والتراب”. قال الرجل: “فمم خُلق هؤلاء؟” فتلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية: 13] فقال الرجل: “ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي ﷺ!”.
قال البيهقي: “أراد أن مصدر الجميع منه أي من خلقه وإبداعه واختراعه، خلق الماء أولاً أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق، ثم جعله أصلاً لما خُلق بعد، فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره، ولا خالق سواه سبحانه جل وعز”(6).
وعن أبي هريرة، قال: “قلت يا رسول الله، إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء”. فقال: “كل شيء خُلق من ماء”(7).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة صحيحة، نكتفي منها بما ذكرنا.
ثانياً: أن البشر كلهم خُلقوا من صُلب آدم، وآدم من تراب، كما تقدم حديث البخاري، فإما أن يكون النبي ﷺ من جنس الملائكة، وهذا مُحال لأن الله سماه رجلاً، والرجل الواحد من الناس، قال تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍۢ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ قَالَ ٱلْكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ مُّبِينٌ﴾ [يونس: 2] فلما لم يكن ملَكاً أصله من نور لزم أن يكون أصله من طين ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110] معناه أن الرسول علیه السلام خُلق من نطفة أبويه.
فقوله تعالى: ﴿ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ إثبات للبشرية والمثل في الصورة والهيئة والجنس، وقوله: ﴿ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ ﴾ مناط التكريم والتفضيل. وقال سبحانه: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُۥ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ [الفرقان: 54] دليل واضح أن البشر خُلق من الماء والرسول بشر. وقال تعالى: ﴿خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٍۢ كَٱلْفَخَّارِ * وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍۢ مِّن نَّارٍۢ﴾ [الرحمن: ١٤-١٥].
ثالثاً: هذا الحديث نص المحدثون على كذبه ووضعه، منهم الحافظ السيوطي حكم عليه بأنه غير صحيح، والحافظ أحمد الغماري المغربي. وقال الحافظ السيوطي في (الحاوي): “ليس له -أي حديث جابر- إسناد يُعتمد عليه”.
قلت: وهو حديث موضوع جزمًا، وقد صرح الحافظ السيوطي في شرحه على الترمذي أن حديث أولية النور المحمدي لم يَثبُت(8).
وقد ذكر الشيخ عبد الله الغماري(9) محدّث المغرب، أن عَزْوَ هذا الحديث الموضوع إلى مصنف عبد الرزاق خطأ لأنه لا يوجد في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره، والأمر كما قال.
قلت وإنما يوجد في تفسيره عن قتادة في شرح قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ ﴾ [هُود: 7] ما نصه: “هذا بدءُ خَلقه قبل أن يخلق السموات والأرض”.
كما أن محدث عصره الحافظ أحمد بن الصديق الغماري حكم عليه بالوضع محتجاً بأن هذا الحديث ركيك ومعانيه منكرة(10).
وألف الشيخ محمد أحمد بن عبد القادر الشنقيطي رسالة في بیان وضعه عنوانها (تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق)، وقال رحمه الله تعالى فيها:
“والدليل على أنه من المختلقات والمفتريات على رسول الله ﷺ طوله المفرط مع ركاكة ألفاظه وغرابته ونكارته وإعضاله عند نقاله، ولانفراد عبد الرزاق به من بين مَن صنف في دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، ولعدم وجوده في ديوان من دواوين أصول الحذاق سوى مصنف عبد الرزاق، ولمخالفته دليل العقل وصحيح النقل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولخلوه من شروط قبول الحديث الستة التي اشترطها علماء الحديث وأئمته، فلم يقبلوا حديثاً خلا منها وهي الاتصال والضبط والعدالة والمتابعة في المستور وعدم الشذوذ وعدم العلة القادحة، وأيضاً نص أئمة الحديث ممن تقدمنا وممن عاصرنا على وضعه وضعفه وعدم وجود سند له.
ولا أعلم أن أحداً من الحذاق الذين ألفوا في خصائصه ﷺ أنهم ذكروا ذلك لو كان صحيحاً، ومن الغريب أن يفوت هذا الحديث رجلاً مثل القاضي عياض رحمه الله، فلا يورده في (الشفا) الذي أورد فيه عيون النصوص الدالة على خلق النبي وشرفه وعظمته، لو صح ذلك عنده.
ومن الأحاديث التي تدور في هذا الفلك:
1) حديث “خُلقت أنا وعليّ من نور، وكنا على يمين العرش قبل أن يخلق آدم بألف عام”. وهذا الحديث موضوع، كما قال الشوكاني لأن في سنده جعفر بن أحمد بن علي بن بيان وكان رافضياً وضاعاً.
2) ومنها حديث: “خلقني الله من نوره وخلق أبا بكر من نوري”. وهذا الحديث عزاه ابن عراق في تنزيه الشريعة لأبي نعيم. وقال فيه أبو نعيم: “هذا باطل”، وقال الذهبي في الميزان: “هذا كذب، والآفة عندي من أحمد بن يوسف المسيحي”(11).
والعبرة في التصحيح والتضعيف أن يكون من حافظ، أي أن ينص حافظ على أن هذا الحديث صحيح، أو أن يذكر حافظ في كتابه أنه يقتصر فيه على الصحيح كالحافظ سعيد بن السكن فإنه ألف كتاباً اشترط فيه الاقتصار على الصحيح سماه (السنن الصحاح)، ومثله ابن حبان وابن خزيمة والحاكم. ويؤيد هذا ما ذكره الحافظ السيوطي في ألفيته في مصطلح الحديث:
وخذه حيث حافظٌ عليه نَصْ أو من مصنَّف بجمعه يُخَص
أعني أن الحديث الصحيح يُعرف أنه صحيح بنَصّ حافظ على صحته، أو بأن يُذكَر في كتاب ألفه حافظ واشترط فيه أنه لا يَذكر في كتابه هذا إلا الصحيح. وأما غير الحفاظ فلا عبرة بتصحيحهم ولا بتضعيفهم، فحديث أولية النور المحمدي لم يصححه حافظ من الحفاظ لا من المتقدمين ولا من المتأخرين، ولم يذكَر في كتاب اشترط فيه مؤلفه الحافظ أنه يقتصر فيه على الصحيح.
وقد جازف بعض نظام الصوفية فأدرجوا هذا المعنى الموضوع في أناشيدهم، منها الشيخ يوسف النبهاني:
نورك الكل والورى أجزاءُ يا نبياً مِن جُندِه الأنبياءُ
وفي كتاب (مولد أبي الوفا) أيضاً ما نصه:
خَلق الله من النور القديم نور مصطفى التهامي الأصيل
وفي أنشودة رأيتها تتردد على ألسنة الصغار في المجامع قولهم فيها: محمد لم يزل نوراً من القِدَم.
فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري (٢٠٦٢).
(۲) رواه مسلم.
(3) جامع البيان في تفسير القرآن (166/6).
(4) البخاري (۱۰۷) ومسلم (۲).
(5) فتح الباري للحافظ ابن حجر (۲۸٩ / ٦-۲۹۱).
(6) تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق، أحمد عبد القادر الشنقيطي المدني.
(7) أخرجه أحمد في المسند (۷۹۳۲) وقال شيخنا شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي ميمونة، فقد روى له أصحاب السنن الأربعة، وهو ثقة، وأخرجه الحاكم ١٢٩/٤ و١٦٠، وأخرجه ابن حبان (508) و(٢٥٥٩).
(8) الحاوي للفتاوى (٣٢٥/١).
(9) مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر، ص43.
(10) المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير للمناوي (ص4).
(11) میزان الاعتدال (1/166).