حكم من انتقص جنابَ النبي صلى الله عليه وسلم
27-10-2020 1674 مشاهدة
بسم الله الرحمن الرحيم من كتابي المناهل الزلالة في شرح وأدلة الرسالة حكم من انْتَقَصَ جَنَابَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم |
(ومن سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بأن ذكر ما يدلّ على النّقص (قتل حدّا)أي إن تاب أو أنكر ما شهدت به عليه البينة ولا تفيد التوبة في سقوط الحدّ، ولذا قال المصنف: (ولا تقبل توبته) أي إنّه يقتل، ولا بدّ ولا تنفعه التوبة لانّه حدّ وجب فلا تسقطه التوبة. أمّا إذا لم يتب كان قتله كفرا.
فقد أجمع العلماء على أنّ من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين فهو كافر مرتدّ يجب قتله.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى : " أجمع عامة أهل العلم على أنّ من سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه القتل[1]،وممن قال ذلك مالك واللّيث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي"[2]
وهذا الإجماع قد حكاه غير واحد من أهل العلم كالإمام إسحاق بن راهويه وابن المنذر والقاضي عياض والخطابي وغيرهم [3].
وقد دلَّ على هذا الحكم الكتاب والسنة :
أما الكتاب؛ فقول الله تعالى : ] يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [ [4].
فهذه الآية نصٌّ في أنّ الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسب بطريق الأولى، و قد دلّت الآية أيضاً على أنّ من تنقّص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر،جادّاً أو هازلاً .
وأمّا السنة؛ فروى أبو داود (4362) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه « أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَمَهَا » [5].
وهذا الحديث نصّ في جواز قتلها لأجل شتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو داود (4361) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَشْتُمُهُ،فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ [سيف قصير] فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا . فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ : أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ . فَقَامَ الْأَعْمَى فَقَالَ:، ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ »[6] .
والظّاهر من هذه المرأة أنّها كانت كتابية كافرة ولم تكن مسلمة، فإنّ المسلمة لا يمكن أن تقدم على هذا الأمر الشنيع . ولأنها لو كانت مسلمة لكانت مرتدّةً بذلك، وحينئذٍ لا يجوز لسيّدها أن يمسكها ويكتفي بمجرد نهيها عن ذلك .
وروى النّسائي (4071) عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه ،فَقُلْتُ : أَقْتُلُهُ ؟ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ : لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » [7].
فعُلِم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل من سبّه ومن أغلظ له، وهو بعمومه يشمل المسلم والكافر .
المسألة الثانية : إذا تاب من سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهل تقبل توبته أم لا ؟
اتفق العلماء على أنه إذا تاب توبة نصوحا، وندم على ما فعل، أنّ هذه التوبة تنفعه يوم القيامة، فيغفر الله تعالى له .
واختلفوا في قبول توبته في الدنيا، وسقوط القتل عنه .
فذهب مالك وأحمد إلى أنّها لا تقبل، فيقتل ولو تاب .
واستدلّوا على ذلك بالسنّة والنّظر الصحيح :
أمّا السنة فروى أبو داود (2683) عَنْ سَعْدٍ بن أبي وقاص قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَسَمَّاهُمْ وَابْن أَبِي سَرْحٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ : وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ،بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ . فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى،فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ ؟ فَقَالُوا : مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، أَلا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ ؟ قَالَ : إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ »[8] .
وهذا نصّ في أنّ مثل هذا المرتدّ الطّاعن لا يجب قبول توبته، بل يجوز قتله وإن جاء تائبا .
وكان عبد الله بن سعد من كتبة الوحي فارتدّ وزعم أنه يزيد في الوحي ما يشاء، وهذا كذب وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أنواع السب،ثم أسلم وحسن إسلامه، فرضي الله عنه .
وأمّا النظر الصّحيح :
فقالوا : إن سب النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به حقان ؛ حق لله، وحق لآدمي . فأما حق الله فظاهر،وهو القدح في رسالته وكتابه ودينه .
وأما حق الآدمي فظاهر أيضا فإنه أدخل المَعَرَّة على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السبّ، وأناله بذلك غضاضة وعاراً . والعقوبة إذا تعلّق بها حقّ الله وحقّ الآدمي لم تسقط بالتوبة، كعقوبة قاطع الطريق، فإنّه إذا قَتَل تحتّم قتله وصلبه، ثمّ لو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله من تحتم القتل والصلب، ولم يسقط حقّ الآدمي من القصاص، فكذلك هنا، إذا تاب السابّ فقد سقط بتوبته حقّ الله تعالى، وبقي حقّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسقط بالتوبة .
فإن قيل : ألا يمكن أن نعفو عنه، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد عفا في حياته عن كثير ممن سبّوه ولم يقتلهم ؟
فالجواب :
كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يختار العفو عمن سبّه، وربمّا أمر بقتله إذا رأى المصلحة في ذلك، والآن قد تَعَذَّر عفوُه بموته، فبقي قتل السّابّ حقاًّ محضاً لله ولرسوله وللمؤمنين لم يعف عنه مستحقّه،فيجب إقامته [9].
وخلاصة القول :
أنّ سبّ النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم المحرمات،وهو كفر وردةٌَ عن الإسلام بإجماع العلماء،سواء فعل ذلك جاداًّ أم هازلاً . وأنّ فاعله يقتل ولو تاب، مسلما كان أم كافراً .
ثم إن كان قد تاب توبة نصوحاً،وندم على ما فعل،فإنّ هذه التوبة تنفعه يوم القيامة، فيغفر الله له[10] .
نسأل الله تعالى أن يعزّ أهل طاعته،ويذلّ أهل معصيته .
(ومن سبّه) صلى الله عليه وسلم (من أهل الذمّة بغير ما به كفر، أو سبّ الله عزّوجل بغير ما به كفر قتل) [11]لأنّ الشّرع أقرّه وأعطاه العهد ورفع عنه السّيف على ما هو أصل في دينه الفاسد كاعتقاد كونه صلى الله عليه وسلم ليس بنبيّ ،أو نبوته خاصّة إلى العرب أووصف الله تعالى بكونه ثالث ثلاثة أمّا ما ليس هو من أصل دينهم فإنّ الشّرع لم يعطهم أماناً ولا عهداً عليه فمن صدر شيء منه قتل كما لو صدر من المسلم (إلاّ أن يسلم) لورود الشّرع بقبول توبة الكافر دون المسلم المرتد فقال تعالى في حقّ الكفار: )قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف( [12]؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقّ المرتد: « من بدّل دينه فاقتلوه» رواه البخاري [13].
[1] – الإجماع لابن المنذر (122).
[2] – . نقله القرطبي (8/82) في الجامع لأحكام القرآن وابن حجر في الفتح (12/281).
[3] – الصارم المسلول (2\13- 16).
[4] – الآيات ( 64-65-66 ) من سورة التوبة .
[5] – والحديث جيد كما قال في الصارم المسلول (2/126) وله شاهد .
[6] – صححه الألباني في صحيح أبي داود (3655) .
[7] – انظر صحيح النسائي (3795)
[8] – صححه الألباني في صحيح أبي داود (2334) .
[9] – الصارم المسلول (2\438).
[10] – لقد كتب كثير من العلماء حول حكم ساب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام ،وقامت مؤتمرات لنصرته ،وهو أمر واجب ينبغي أن تتكاتف عليه جهود الأمة ،علماء وحكاما وعامة الناس،وكان ممن كتب في هذا الموضوع قديما الإمام الرباني المالكي القاضي عياض في كتابه الماتع الشفا بتعريف أحوال المصطفى ، لكن كثيرا ممن يزعم حب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الأيام لم يقم على دعواه بينة فأين الدعوى من الحقيقة . والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
[11] – وكما سيأتي في حدّ الزنا أن من نواقض العهد بيننا وبين أهل الذمة أن يسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم .
[12] – من الآية ( 38 ) من سورة الأنفال .
[13] – تقدم تخريجه في الردة