الرحلة في طلب العلم شرف وعزة

28-10-2020 1085 مشاهدة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أما بعد عباد الله:
يقص الله علينا قصة موسى عليه السلام وهو يرتحل في البحر ليلقى الخَضِر عليه السلام، فيتعلم منه علماً، ما كان له أن يعلمه لولا أن وفقه الله لسلوك السبيل الصحيح الموصل إلى هذا العلم، فلسان حال هذه القصة يقول: هكذا فليكن طلب العلم، رحلة طويلة، عناء ومشقة، بحث متواصل، نَفَسٌ طويل وعزيمة قوية، بصر حادٌّ ورؤية فاحصة.
وإذا كان موسى عليه السلام على سمو قدره، ورفعة مكانته يحرص على طلب العلم، فما بالنا نحن الضعفاء المحاويج الجهلة نفرط في طلب العلم، ولا نسلك السبل الموصلة إليه.
يشير الإمام البخاري في الصحيح إلى هذه القصة وإلى هذه الرحلة فيقول: باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام[1]، ثم يشير الإمام البخاري – رحمه الله – إلى هذه القصة وإلى سببها فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمارى هو والحُرُّ بن قيس بن حِصْنٍ الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس: هو خَضِر، فمرَّ بهما أبيّ بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيلَ إلى لقيِّه هل سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر شأنه؟ قال: نعم سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدُنا خَضِر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوتَ آية وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه))[2]. إلى أن لقيه وكان من أمره ما كان.
قصة عجيبة يتجلى فيها شرف الرحلة في طلب العلم، وفضل العلم الذي يُضحّى في سبيله بكل نفيس وغالٍ.
ولقد عرف السلف الصالح هذا الفضل فسهروا الليالي الطويلة وأنفقوا الأعمار النفيسة، لأن العلم – بعد الهداية – شرف ما بعده شرف، وعبادة من أجلِّ العبادات.
هو  العَضْبُ  المُهَنَّدُ   ليس   يَنْبُو        تُصيبُ به  مضاربَ  مَنْ  أردتَ
وكنزٌ   لا   تخاف   عليه    لصّاً        خفيفُ الحَمْل يوجدُ حيث كنتَ
يزيد    بكثرة     الإنفاق     منه        وينقص  إنْ   به   كفّاً   شَدَدْتَ

رحل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى مصر إلى مدينة العريش ليكتسب حديثاً واحداً من عبد الله بن أنيس – رضي الله عنه.
ورحل الإمام أحمد شهرين كاملين من بغداد – دار السلام – إلى صنعاء اليمن ليأخذ عشرة أحاديث.
قال سعيد بن المسيب: والله الذي لا إله إلا هو إني كنت أرحل الأيام الطوال لحديث واحد!!
فيا أيتها الأمة الواعية .. ويا أيها الشباب الرائد .. هكذا يطلب العلم، وهذا طريق طلبه الصحيح.
ولنستمع الآن إلى القصة الرائعة التي ساقها ربنا – تبارك وتعالى – في كتابه، ففيها العبرة، وفيها العظة، وفيها الدروس العظيمة والمواقف الجليلة.
موسى الآن يغادر أرض بني إسرائيل من فلسطين ليركب البحر بعد أن ألقى فيهم خطبة عظيمة وبعد أن انتهى قال له أحد بني إسرائيل: يا موسى: هل تعلم من الناس من هو أعلم منك؟ قال: لا والله لا أعلم أحداً أعلم مني، وقد صدق عليه السلام فهو نبي الله ورسوله، وهو لا يعلم احداً أعلم منه، ولكن الله – عزَّ وجلَّ – عاتبه من فوق سبع سماوات وقال له: يا موسى: الخَضِر في مجمع البحرين أعلم منك فارحل إليه وتزود منه علماً إلى علمك، قال: يا رب وكيف أعرفه إذا لقيته؟ قال: ((يا موسى خذ حوتاً واجعله في مكتل فإذا فقدت الحوت فقد لقيت الخَضِر، فأخذ موسى حوتاً مملوحاً وجعله في مكتل وأخذ غلامه يوشع بن نون يحمل معه الغذاء في السفر، فسارا طويلاً وشقَّ عليهما السير فعندئذٍ قال موسى لفتاه: {لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف: 60]، أي لا أزال سائراً إلى مجمع البحرين وهو المكان الذي سوف أجد فيه مَنْ هو أعلم مني، حتى ولو سرت حقباً من الزمان. {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً} [الكهف: 61].
سار موسى وفتاه حتى بلغا مجمع البحرين فنام موسى وفتاه من شدة التعب والإرهاق، أما الحوت فقد أصابه رشاش من ماء عين هناك تسمى عين الحياة فاضطرب وانتفض وقفز من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام، وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء وهو ينظر إليه {فَلَمَّا جَاوَزَا ً} [الكهف: 62]، أي المكان الذي نسيا الحوت فيه {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباّ} أي تعباً، فقد تعب، عليه السلام، فأراد أن يستريح قليلاً حتى يستمر في مواصلة الرحلة المضنية قال يوشع: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ   وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ   وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً} [الكهف: 63]، فلا طعام ولا غداء، فالحوت الميت قد تحرك وانطلق إلى سبيله في مشهد عجيب: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64]، أي هذا الذي نطلب: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64]، أي رجعً يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما، {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا   وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65]، وهذا العبد هو الخضر عليه السلام وجده موسى عليه السلام عند الصخرة مُسَجًّى بثوب، فسلم عليه فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام. فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قد أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً.
ووصف الله – عزَّ وجلَّ – الخضر بأنه آتاه الرحمة وعلمه العلم، وهذه هي الغاية التي لا يدركها إلا القليل، فَعِلْمٌ بلا رحمة قسوة وجبروت، ورحمة بلا علم جهل وتردي، فجمع الله للخضر الاثنين؛ الرحمة والعلم، ليكون قدوة لموسى عليه السلام، قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66]، سؤال تلطف لا على وجه الإلزام، وهذا من حسن أدبه، عليه السلام، حيث أنزل نفسه منزلة التلميذ الذي يريد أن يتعلم من أستاذه، فقال الخضر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67]، مع أنه يعرف قوة موسى عليه السلام، وشدة عزيمته في طلبه العلم، ثم قال له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68]، فأنا أعرف أنك سوف تنكر عليَّ ما أنت معذور فيه، لأنك لم تطلع على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطّلعت عليها أنا دونك، فردَّ موسى عليه السلام: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً   وَلاَ   أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف: 70]سوف أصبر على ما أرى منك من أمور ولن أخالفك في شيء أبدا فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً }الكهف70، إياك أن تسألني عن شيء قبل أن أبدأك أنا به، فاتفقا على ذلك، وانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى بلغا مجمع البحرين، ومر عصفور فنزل حتى شرب من الماء، ثم انطلق فقال الخضر لموسى عليهما السلام: كم ترى هذا العصفور نقص من هذا الماء؟ فأجاب موسى: ما أقل ما نقص!! فقال الخضر: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما نقص هذا العصفور من هذا الماء.
وبينا هما يمشيان على ساحل البحر، إذ مرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر بنوره ووقاره فحملوهم بغير أجرٍ، فركبوا في السفينة، فكان أول ما فعل الخضر أن بدأ يقلع في ألواح السفينة مما يعرضها للغرق، فاندهش موسى عليه السلام، وقال منكراً عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71] مع أنهم حملونا بغير نول {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }الكهف71 ، شيئاً عجباً، فاعترض موسى عليه السلام؛ لأنه ما كان ليسكت على هذا الأمر المخالف لشريعته، ولكن الخضر عليه السلام ذكره بالشرط الذي بينهما: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 72]، لأن ما فعلته من الأمور التي اشترطت عليك ألا تنكر عليَّ فيها، وهو أيضاً من الأمور التي تحتوي على مصلحة لم تعلمها أنت ولم تحط بها خبراً. فقال موسى مستحياً: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ   وَلاَ   تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف: 73]، أي لا تضيق عليَّ ولا تشدد عليَّ وقد ورد أن هذه المرة كانت من موسى عليه السلام، نسياناً.
خرج موسى والخضر، عليهما السلام، من السفينة وبينما هما يمشيان على الساحل إِذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فتقدَّم إليه وصرعه على الأرض ثم أخذ رأسه فاقتلعه بيده فقتله، فصرخ موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: 74]، أتقتل نفساً صغيرة لم تعمل إثماً قط بغير مستندٍ لقتلها، إن هذا الأمر منكر ظاهر النكارة، فما كان من الخضر عليه السلام، إلا أن أعاد عليه الشرط الذي بينهما: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف: 75]، فأتى بالجار والمجرور تأكيداً على التذكار بالشرط الأول، فاستحى موسى عليه السلام، مرة ثانية وقال في هذه المرة: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} [الكهف: 76]، أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة فلا تصاحبني بعدها، لأنك قد أعذرت إليَّ مرة بعد مرة، وهذه الثانية.
وتبدأ القضية الثالثة وفيها يقول الحق – تبارك وتعالى – : {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77]، مرَّ موسى والخضر على قرية بخيلة لا تطعم ضيفاً ولا تسقي ظمآناً، ولا ترحب بوافدٍ، ومن شدة بخل هذه القرية أن طلب موسى والخضر الطعام فأبوا وهذا من أعظم اللؤم وأشد درجات البخل:
إني   نزلتُ   بكذا   بين   ضيفَهم        عن القِرَى وعن  الترحال  مطرودُ
جودُ الرجال من الأيدي وجودُهُمُ        من اللسان  فلا  كانوا  ولا  الجودُ

امتنعت بيوت هذه القرية أن تضيف هذين الرجلين الصالحين: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77]، نزلا في مكان، في سكة من السكك، فوجدا جداراً مائلاً يكاد أن يسقط، فرده الخضر إلى حاله من الاستقامة، فعند ذلك قال له موسى عليه السلام: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77]، إن هذه القرية أبت أن تضيفنا، فلا هم أطعمونا ولا سقونا ولا آوونا، ثم تأتي أنت فتبني جدارها مجاناً بدون أجر أما الذين أركبونا في سفينتهم بلا عطية ولا أجر فكان جزاؤهم أن عمدت إلى تخريب سفينتهم، فقال له الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني فهذا فراق بيني وبينك: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78]، سوف أخبرك بتفسير ما أنكرته عليَّ من أمور لتعلم أن هناك حكماً باطنة لا تعلمها أنت، قد أطلعني الله – عزَّ وجلَّ – عليها.
وقبل أن نستمع إلى الخضر وهو يشرح لموسى عليه السلام ما أشكل عليه من أمور وتصرفات، يحسن بنا أن نعيش بعض الدروس المستفادة من هذه القصة:
* الدرس الأول: موسى عليه السلام، على جلالته وعلو قدره يترك موطنه وقومه، ويذهب في رحلة طويلة لتعلم العلم النافع على الخضر، مع أن موسى عليه السلام، أفضل من الخضر بلا شك.
* الدرس الثاني: العلم هو قال الله – تعالى – وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأي مصنَّف يخلو من كلام الله – عزَّ وجلَّ – وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – فضرره أكثر من نفعه، لأنه يفتقد إلى نور الكتاب والسنة.
دِينُ    النبيِّ    محمدٌ     أخبارُ        نِعْمَ    المَطِيَّة     للفتى     آثار
لا ترغبنَّ عن  الحديث  وأهله        فالرأي  ليلٌ   والحديث   نهار
العلمُ  قال  الله   قال   رسوله        قال الصحابة هم أولو العِرْفَان

* الدرس الثالث: ما موقفنا نحن كأمة رائدة مكلفة بقيادة البشرية نحو معالم التوحيد والإيمان، فالكتب قد طبعت في أفخر الطبعات، والأحاديث حققت، وصنعت الفهارس العلمية التي وفرت على الباحث زماناً طويلاً، كان يستغرقه في البحث عن مسألة أو حديث، فليس لدينا عذر في عدم الإقبال على العلم الشرعي، وسوف يسألنا الله – تبارك وتعالى – عن تضييع زماننا وأوقاتنا في غير طلب العلم والرحلة في سبيله.

بقي الإمام أحمد يجمع مسنده أربعين سنة، لم يهدأ له بال ولم يرتح له خاطر حتى أتمه، دخل مصر والعراق والشام وخراسان والحجاز وصنعاء اليمن، وجمَّع مسنده حديثاً حديثاً، وبحث في الأسانيد، والعلل والطرق، وها هو مسند الإمام أحمد يملأ الدنيا، وهو في أدراجنا وفي مكتباتنا، وعلى الأرفف يزينها، ولكن أين الذين يقرؤون المسند؟ أين الذين يعكفون على المسند دراسة وتحقيقاً، وبحثاً في الأحاديث التي تضمنها هذا السِّفْر العظيم؟
كانوا يقرؤون في الشمس المحرقة، وفي البرد القارس، مع قلة الطعام والشراب، كان الإمام ابن الجوزي يأتي إلى نهر دجلة ومعه كسر الخبز اليابس، لأنه ما كان يستطيع أن يأكل هذا الخبز بغير ماء حتى لا يتجرح حلقه من شدة يُبْسه.
أما نحن فلا نقرأ مع أن الماء البارد أمامنا، وأشهى الأطعمة من حولنا وأجهزة التبريد قد بددت حرارة الشمس الملتهبة، فرحم الله علماء السلف.
* إسحاق الكوسج أحد العلماء، سافر إلى خراسان، وأتاه وهو في الصحراء مطر عظيم وهو يحمل كتبه معه التي جمعها في سنين طويلة، فقال: يا رب هذه كتبي تعبت عليها، وسوف يمحو هذا المطر المداد الذي كُتِبَتْ به، يا رب أيضيع كل هذا الجهد، وكل هذا التعب، يا رب لا تضيعني، فلما انقطع القطر وجف الغيث أخذ يبحث عن كتبه فما وجد حرفاً منها أصابه البلل، إلا أن الله – عزَّ وجلَّ – لم يضيعه، رآه الصالحون في المنام وقالوا: يا إسحاق ما فعل الله بك، قال: غفر لي، قالوا: بماذا؟ قال: بما حصل لي في تلك الليلة التي أصابني فيها المطر!!
* وهذا عبد الله بن المبارك، وقف مع شيخه من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يسائله حتى فصل بينهما المؤذن، فقال له تلاميذه: لو أنك أرحت نفسك؟ قال: والله لو وقفت شهراً كاملاً في مسألة ما أنصفتها!!.
أولئك الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، يوم طلبوا العلم لوجه الله – عزَّ وجلَّ – لا لأجل أموال زائلة، ولا لأجل منصب دنيوي، ولا لأجل ثناء من الناس عليهم، فهذه الأمور جميعاً لا تساوي ساعة واحدة من تلك الرحلة الطويلة التي قضوها في البحث عن العلم وفي تحصيله من أهله.
* عباد الله:
((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين))[3]، هكذا قال – صلى الله عليه وسلم. من يرد الله به خيراً يشرح صدره للإقبال على العلم، يعلمه المسائل الشرعية، ويبصره بالأدلة القرآنية التي تزيل عنه الغشاوة وتنير له طريق الطلب، وتدله على أقصر الطرق للوصول إلى المطلوب.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وعلمني الله وإياكم العلم النافع، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
 
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى ربهم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
* أما بعد:
وقبل أن يفارق الخضر موسى عليه السلام، وقف معه وقفة يخبره فيها بما أشكل عليه من تصرفات حدثت أثناء مسيرهما معاً، الأمر الذي تحير معه موسى، عليه السلام، وجعله يحتج دائماً وينكر مراراً، حتى بعد أن أخذ على نفسه العهد بألا يحتج ولا يسأل ولا ينكر.
قال له الخضر:
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78].
* القضية الأولى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] هذا تفسير القضية الأولى التي أشكلت على موسى عليه السلام، مما خفيت عليه حكمته.
إن هذه السفينة كانت لبعض المساكين، وكانوا يعملون عليها، ويرزقون بسببها، وعند الشاطئ على الساحل ملك ظالم جبار، يقف لكل سفينة بالمرصاد، فهو يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها، ولذلك عمدت إلى هذه السفينة فأحدثت فيها عيباً يسيراً لا يعطلها، ولا يضرها، حتى لا يلتفت إليها هذا الملك الظالم ويتركها إذا شاهد العيب الذي فيها.
* القضية الثانية: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80]، وورد أن هذا الغلام طُبع يوم طبع كافراً[4]، وكان أبواه مؤمنين، فخشي الخضر أن يحملهما حُّبه على متابعته على الكفر. قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض كل امرئٍ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحبّ قال – تعالى -: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216]، ثم علل الخضر قتله بقول: {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف: 81] أي ولداً أزكى من هذا الغلام وهما أرحم به منه، وقيل: لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم.
* القضية الثالثة: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]، يقول الخضر: إن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، فلو سقط الجدار لظهر هذا الكنز ولأخذه الناس، فهذا من حفظ الله – عزَّ وجلَّ – لأبناء العبد الصالح بعد وفاته، ولذلك قال الخضر: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف: 82]، فانظر إلى تقدير رب العزة – سبحانه وتعالى – كيف حفظ هؤلاء الأبناء بصلاح أبيهم، وفي الغالب أن الأب إذا كان صالحاً كانت ذريته كذلك، وإذا كان فاجراً غلب على ذريته الفجور والفسق. {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف: 82]، وهنا أسند الإرادة إلى الله – عزَّ وجلَّ – تأدباً مع الله – عزَّ وجلَّ – حيث أسند ما هو خير محض إلى الله – عزَّ وجلَّ – وكذلك بلوغ الغلامين الْحُلُم لا يقدر عليه إلا الله – عزَّ وجلَّ – أما في مسألة السفينة، فقال: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، فنسب الإرادة إلى نفسه لأن ظاهر الفعل الفساد، وإن كان حقيقته غير ذلك.
ثم بيَّن الخضر بعد ذلك أنه ليس له من الأمر شيء، فقال: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، إن هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، والغلامين اليتيمين، وما فعلته عن أمري ولكني أُمرت به ووقفتُ عليه، {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]، أي تفسير ما ضقتَ به ذرعاً ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداءً.
 أيها المسلمون:
هذه هي الرحلة، التي ارتحلها موسى – عليه السلام – لطلب العلم، باحثاً عن المعرفة، طالباً للحكمة، فهلا حرصنا على طلب العلم، وحضور مجالس العلماء، وهلا اجتهدنا في التفقه في الدين، والاسترشاد بأقوال أهل العلم من فقهاء الأمة الذين هم أهل الحل والعقد عند المسلمين.
* عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله، بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
* وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صَلى عليَّ صَلاة صَلى الله عَليه بِها عَشراً))[5].
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد – صلى الله عليه وسلم – واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم على أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومَنِّك يا أكرم الأكرمين.
 

[1]   صحيح البخاري (1/26) كتاب العلم، باب (16).
[2]   صحيح البخاري (1/26-27) كتاب العلم، باب (16).
[3]   أخرجه البخاري (1/26) كتاب العلم، باب (13)، ومسلم (3/1524) كتاب الإمارة رقم (175).
[4]   أخرجه مسلم مرفوعاً من حديث أبي بن كعب (4/2050) كتاب القدر، رقم (29).
[5]   أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).
 
 
 
موقع الألوكة

 

تعليقات المستخدمين

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يمكنك قراءة

  • 11 ربيع الأول 1442 هـ
    هل له أن يوصي بكل ماله إذا لم يكن له…

    هل له أن يوصي بكل ماله إذا لم يكن له أولاد ؟

  • 08 ربيع الثاني 1445 هـ
    دورية أشلاء لإنقاذ الأشلاء

    دورية أشلاء لإنقاذ الأشلاء

  • 11 ربيع الأول 1442 هـ
    إجازات في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم

    إجازات في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم