الإعاقة الناجحة أمل وثواب
28-10-2020 1344 مشاهدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
لقد فضل الله الخلق بعضهم على بعض في الرّزق علما وعقلا ومالا ، صحة ومرضا وجمالا قال تعالى ] والله فضل بعضكم على بعض في الرزق [ [النحل :71]، فمن رزقه الصحة فإنما هي نعمة يحب واهبها أن يشكرها من وهبت له، وذلك بالمحافظة عليها فيما يرضي الله عز وجل، ومن ابتلاه الله بالمرض فإنمّا هو لتطهير العبد ورفع درجته فإن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه سخطه ولايضر الله شيئا، ومن ابتلاه بالفقر فلحكمة يعلمها هو ، ومن ابتلاه بالغنى فليعلم أنه ليس لمحبته إياه .
وكم من نعمة في طيّها نقمة ،وكم من محنة في أحشائها نعم كثيرة ، فعلى المسلم أن يشكر الله على العافية ويرحم أهل البلاء، ومن ابتلاه الله فليعلم أنه قد ابتلي من هو أرفع منه منزلة وأعلى قدرا وجاها ، فقد ابتلي نبي الله أيوب عليه السلام بالمرض الشديد حتى قال لربّه: )أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين[ [الأنبياء : 83].
و قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس:(إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي وابن ماجة /حسن ، فلاتتسخط على الابتلاء بالمصائب.
ولعلّك لو اطلعت على ماأخفي عنك وراء سُجُف الغيب لحمدت الله على ماأنت فيه ، وفي قصة موسى عليه السلام والخضر لماّ ركبا السفينة، خرقها الخضر (أي كسر ألواحا فيها ليعيبها )، فقال له موسى: ما هذا الذي أحدثته ؟ هذه مصيبة على أصحاب سفينة أحسنوا إلينا فأسات إليهم هكذا ظهر لموسى عليه السلام وهو كليم الله ولكن الله أطلع الخضر على عاقبة المآل : ] حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) [ [الكهف:71] إِمْراً أي منكرا. قال القتيبي: عجبا. والإمر في كلام العرب الداهية، أي إن هذا لأمرٌ عظيمٌ جداً، وقد قال له الخضر: ] إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [ [الكهف:67] ثم إنه مر مكان فيه صبية، فأخذ واحداً منهم، ثم قتله وأزهق روحه، فعجب موسى من ذلك، فقال: ] أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [ [الكهف:74 – 75] ثم لما أراد أن يبين له جميع ما عجز عن الصبر عليه، قال: ] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [ [الكهف:79]، وفي قراءة: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا ).
انظروا -يا عباد الله- أي الأمرين أعظم أن تخرق السفينة، فيمنع ذلك الظالم الغاشم عن مصادرتها وأخذها، أو تترك السفينة، ثم يأخذها ويدع المساكين بلا سفينة أبداً.
إذاً: فمصلحة المصيبة في خرق السفينة كانت أولى وأعظم وأجل من ترك السفينة صالحة، فهذا قدر من أقدار الله يفضي إلى الرضا، ويفضي إلى معرفة عين الحكمة،
وأما الغلام الذي أزهقت روحه، فجاء بيان أمره ] وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [ [الكهف:80 – 81] فكانت مصلحة قتل هذا الغلام خيرٌ من أن يبقى، فيكون سبب فتنةٍ أي: كفرٍ على أمه وأبيه،والكفر أشد من بقاء الولد ، فكان إزهاق روحه فيهاعين الرحمة، والصواب بالأم والأب وما نسل منهما من الذرية.
وهكذا فكل مصيبة نحن فيها سواءً كانت أمراضاً باطنيةً، أو عللاً ظاهرةً، فوالله إنها لعين العدل، وعين الحكمة، وعين الرحمة، والله جل وعلا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا فما قدر لنا شيئاً إلا وفيه مصلحة عظيمة ؛ لقد قال النبي e حينما كان راجعاً من معركة حنين، ومعه سبي هوازن، وقد حصل لهم من السبي شيء كثير من الشاء والنعم والأطفال والنساء، فبينما هم كذلك -وقد أعطى كل سائل ما أعطى وطلب- بينما هم كذلك إذ جاءت امرأة تركض من بين السبي، ثم أخذت وليداً من بين السبي، فضمته إلى صدرها، وأخرجت ثديها أمام الناس، وألقمت ثديها في فم الصبي، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ» قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» البخاري (5999).
نظرة الإسلام للمعاقين :
إن الإسلام ليس كغيره من بعض المذاهب العقلية التي تقوم على المنفعة والمصلحة فيرى أن المبتلى إنما هو عبء على المجتمع ينبغي التّخلص منه كما قال زعماء الاشتراكية وهتلر ومن قبلهم، فلإسلام دين الله للناس جميعا ، فابتلى المعاقين وابتلانا بهم لنرى نعم الله علينا في الإحسان إليهم والأخذ بأيديهم إلى مايرجونه من العيش الكريم والنّظرة اللائقة بهم كبشر لهم مالنا وعليهم دون ماعلينا في كثير من الأشياء .
وانظر كيف عاتب الله نبيه وأحب خلقه إليه عندما أعرض عن أعمى ظنا منه e أن التفاته لصناديد قريش ودعوتهم خير من دعوة هذا الأعمى عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه ، وبالطبع فإن ابن أم مكتوم لم ير ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أعمى ، ولكن الله لايخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فجاء عتاب الله لنبيه: ] عبس وتولى ، أن جاءه الأعمى …. [[عبس : 1 و2]وبهذه الآيات البينات أوضح الله تعالى لنبيه ولأمته أن المؤمن الضرير الكفيف هو أطيب عند الله من هؤلاء الصناديد الكفرة ، فكان صلى الله عليه وسلم كلما رآه هشَّ له ورحب وقال :[ أهلاً بمن عاتبني فيه ربي… ] ، ورغم فقر ابن أم مكتوم وثراء هؤلاء القوم إلا أنه عند الله أثقل ميزاناً وأحسن حالاً وأفضل مقاماً وربما يكون ابن أم مكتوم نبراساً لهؤلاء الضعفاء وكذلك الأغنياء .
بل كان الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم يراعي شعور هذه الطبقة فيأكل معهم ويتفقد أحوالهم ، فعن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة، ثم قال: «كل بسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه» رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب[1]
ولم يغفل الخلفاء الراشدون ولا من بعدهم هذه الفئة في المجتمع ، فقد حث الخليفة عمر بن عبد العزيز على إحصاء عدد المعوقين في الدولة الإسلامية ، ووضع الإمام أبو حنيفة تشريعاً يقضي بأن بيت مال المسلمين مسئول عن النفقة على المعوقين ، أما الخليفة الوليد بن عبد الملك فقد بنى أول مستشفى للمجذومين عام 88 هـ وأعطى كل مُقعد خادماً، وكل أعمى قائداً، ولما ولى الوليد إسحاق بن قبيصة الخزاعي ديوان الزمنى بدمشق قال : لأدعنّ الزّمِن أحبّ إلى أهله من الصّحيح ، وكان يؤتى بالزَّمِن حتى يوضع في يده الصّدقة، وكذلك فعل الخلفاء العباسيون فقد أنشئوا مستشفيات للمجانين والبلهاء فأنشأ الخليفة المأمون مآوٍ للعميان والنساء العاجزات في بغداد والمدن الكبيرة ،وقام السلطان قلاوون ببناء بيمارستان لرعاية المعوقين ، بل وكتب كثير من علماء المسلمين عن المعاقين مما يدل على اهتمامهم بهم مثل : الرازي الذي صنف ( درجات فقدان السمع ) وشرح ابن سينا أسباب حدوث الصمم .
وأكدّ ابن القيم الجوزيه على أهمية الاهتمام بالطفولة المبكّرة وتوفير الرعاية المتكاملة لها ، وحثّ الأسرة على ملاحظة نموّ أطفالها مما يسهم في الاكتشاف المبكر للإعاقة . وأشار إلى أهمية راحة الجسم من الاضطرابات الانفعالية السلوكية.
أرأيتم تقدم أمتنا في اهتمامها بالمعوقين فمتى استفاقت الحضارة الغربية لهذا الأمر الذي تعده في قرونها المظلمة شيطنة في نفوس هؤلاء أقعدتهم عن الصحة والعافية .
لقد كانت حقوقهم إلى عهد قريب مهضومة الجانب حيث يشير بيان" سلامنكا "[2] بشأن المبادئ و السياسات و الممارسات في تعليم ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة ، إلى إعلان حقوق الإنسان لسنة 1948 ، الذي يؤكد على حق كل فرد في التعليم وجاء المؤتمر العالمي حول التربية للجميع في 1990 وكفل هذا الحق للجميع بغض النظر عما بينهم من فروق فردية، وذكَّر بمختلف الإعلانات الصادرة عن الأمم المتحدة ، التي توجت سنة 1993 بإصدار القواعد الموحدة بشان تحقيق تكافؤ الفرص للمعوقين.
والمعاق كسائر الناس له أحاسيس ومشاعر مرهفة ينبغي للمجتمع أن يراعيها مادام القلب سليما فلايضرّه مافقد من الحواس إن كان مؤمنا ] إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [ [ ق: 37]وقال سبحانه ] إنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ [الحج : 46 ] .
ثواب من ابتلي بإعاقة :
إن ثواب المبتلى عند الله من أعظم الثواب إذا صبر، واحتسب صبره عند الله تعالى؛ فإن الله سيكون معه، يؤيده وينصره ويسدّده ويهديه، كما قال تعالى: ] يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين [ [البقرة: 163]، وقال تعالى: ] والله يحب الصابرين [ ؛ فتأمل هذا الفضل العظيم، كيف أن الصبر سبب عظيم في حصول محبة الله ووده.
وأما عن ثواب الصابر على البلاء، فإن ثوابه أعظم من أن يذكر، وأكبر وأجل من أن يعد ويحصر؛ لأن ثوابه لا يمكن أن يعقل بالعدِّ والحساب، حتى قال جلَّ شأنه: )إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب[ [الزمر : 10]!! وثبت في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة».
وخرج الترمذي أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما يصيب المسلم من نَصَبٍ (تعب) ولا وَصَبٍ (مرض) ولا همّ ولا حَزَنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ، حتى الشوكةُ يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه)) متفق على صحته.
فتأمل كيف صار البلاء نعمةً، يُكفّر بها الخطايا ويغفر بها الذنوب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه) أخرجه البخاري في صحيحه. نعم اخي الحبيب إنّ الله عوض عبده المبتلى بالإعاقة بثواب لايقدّر بثمن ولربما لوكان صحيحا شحيحا يأمل الصّحة الدائمة والغنى الكبير لما أوصله ذلك إلى جنّة عرضها السموات والأرض ولكنّ الله عدل حكم، فإنه يعطي المبتلى الصابر الشاكر من لايخطر له على بال فقد جاء عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ، أَتَتِ النَّبِيَّ e ، فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي ، فَقَالَ : " إِنْ صَبَرْتِ فَلَكِ الْجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ " ، قَالَتْ : إِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لا أَنْكَشِفَ . فَدَعَا لَهَا » . البخاري (5249).
الله أكبر ما أعظم هذا الثواب الذي لايناله إلا المجاهدون الصابرون الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم ، نعم بشرط أن تصبر ،وأن تحمد الله ولاتتضجر « فإنّما الصبر عند الصدمة الأولى » فبها يثبت الأجر ، أو يكتب الوزر ؛
وروى البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصَبَرَ عوضته منهما الجنة » ، والمراد بالحبيبتين العينان لأنهما أحبّ أعضاء الإنسان إليه ، لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته من خير فيسرّ به، أو شرّ فيجتنبه.
والمراد أنه يصبر مستحضرا ما وعد الله به الصابر من الثواب ، لا أن يصبر مجردا عن ذلك ، لأنّ الأعمال بالنياّت ، وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة ، فإذا تلقى ذلك بالرضا تمّ له المراد وإلا يصير كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه : « أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا ، وأنّ مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عُقِلَ ولم أُرْسِلَ » أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " موقوفا.
ماذا ينبغي أن يقول من رأى أهل البلاء :
لقد علّمنا الإسلام ادبا عظيما مع ربنا الذي وهب الصحة والعافية وأعطى كل واحد في هذا الحياة من البلاء بالخير أو الشر ، ولنتذكر نعمة الله علينا فينبغي أن نحمد الله ونثني عليه لأنه لم يبتلنا بذلك المرض بل على المعاق أو المريض أن يحمد الله ويثني عليه ان لم يبتله بإعاقة اكبر من ذلك فقال e : « مَنْ رَأَى عَبْدًا بِهِ بَلاءٌ ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَهُ تَفْضِيلا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاءُ كَائِنًا مَا كَانَ " الترمذي (3378).
وينبغي أن يقول ذلك سرا حتى لايجرح مشاعر الاخرين .
كما أنه لايجوز أن يسخر المسلم ممن ابتلاه الله عز وجل ففي سورة الحجرات آداب جمة لهذ الأمة قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) [ .
وقد استثنى العلماء مناداة المعاقين بصفاتهم أو للتعريف بهم أو يسأل عنهم إذا كان ذلك لايؤذيهم ولايجرح شعورهم ، ولم يكن على وجه السخرية بهم وذلك كالأعرج والأعمى، وأما إن كان للطعن والغيبة فلا يجوز ، وكذلك إن كره مناداته بذلك لم تجز مناداة بها "[3].
نماذج من المعاقين الذين لم تقيدهم إعاقتهم فصاروا أئمة في فنونهم :
إن الإعاقة الحقيقية هي القصور العقلي في تجاوز الابتلاءات، أمّا من أخذ الله منه شيئا وأعطاه كثيرا فإنّه لاينبغي أن يقف عند إعاقته، ولقد رفع الله الحرج عن الباذلين جهدهم ولم يصلوا إلى مبتغاهم من الأجر والفضل وعوّضهم بذلك منه مغفرة وأجرا عظيما كرما منه ومنة ، قال تعالى ] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) [ [الفتح].
بل إنّ من العلماء المسلمين من كان يعاني من إعاقة ومع هذا لم يؤثر ذلك عليهم بل أصبحوا أعلاماً ينصرون هذا الدين بالقول والفعل فمنهم :
1- قالون الأصم واسمه عيسى بن مينا صاحب الرواية المشهورة .
2- عطاء بن أبي رباح وكانت فيه عيوب كثيرة ومع ذلك كان مفتي الحج الأكبر .
3- أبان بن عثمان ، كان لديه ضعف في السمع ومع هذا كان عالماً فقيهاً
4- محمد بن سيرين ، كان ذو صعوبة سمع شديدة ومع هذا كان راوياً للحديث ومعبراً للرؤى .
5- بشار بن برد كفيف، قال عنه الجاحظ (المطبوعون على الشعر هم بشار، والسيد الحميري وأبو العتاهية ولكن بشار أطبعهم). وقيل أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام ثلاثة هم بشار وأبو العتاهية والسيد الحميري) وقد زينت أشعاره الأدب العربي بقلائد وعقود تفوق الألماس والجواهر
6- – أبو العلاء المعرّي، كفيف أيضاً درس فلسفة اليونان ونال من العلم والثقافات المختلفة وقرض الشعر وسمي رهين المحبسين، وله مؤلفات عديدة أثرت الفكر والثقافة العربية.
7- أبو الأسود الدؤلي وكان أعرج وأصلع ، ومع ذلك كان شجاعاً وذكياً جداً، نعم بالرخاء على يد علي بن أبي طالب وأصبح قاضياً للبصرة ثم أميراً عليها وجعل وسيطاً بين علي ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ في معركة الجمل، وشارك في معركة صفين.
8- أبان بن عثمان بن عفان كان أصم وأحول وأبرص ثم أصيب بالفالج، وكان من الفقهاء التابعين، وعيّن والياً على المدينة المنورة عام 76هـ
9- عبد الرحمن بن هرمز الأعرج .
10- حاتم الأصم .
11- سليمان بن مهران الأعمش .
وغيرهم كثر .
وقد يتساءل القراء ألا يوجد في وقتنا الحالي من هم معاقون وموهوبون؟ الإجابة نعم هناك العديد من المعاقين الموهوبين ممن حصل على مراكز قيادية ولكنهم لم يحصلوا على ذلك بسهولة وإنما نحتوا الصخر حتى وصلوا إلى ما هم إليه من مكانة، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
الشيخ/ عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ والشيخ/ عبدالله الغانم ،والدكتور/ ناصر الموسى وكلهم مكفوفون ووحد بينهم الإلهام،ومنهم مفجّر الانتفاضة الفلسطينية الشيخ المجاهد الشهيد أحمد ياسين ؛ رحم الله أمواتنا وحفظ أحياءنا .
المعاق والتكاليف الشرعية :
لايمكن للمعاق أن يكون في منأًى عن الأحكام الشرعية مادام عاقلا ، لأن العقل هو مناط التكليف ، فعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق. »[4]، فيجب عليه مايجب على الأصحاء بحسب استطاعته كما قال تعالى ] اتقوا مااستطعتم [ فيشهد الشهادتين بلسانه مالم يكن أبكما ، ويتطهر ويصلي ويصوم ويزكي ماله ويحج ويفعل ماأمره الله به وينتهي عما نهاه عنه قال e : « ماأمرتكم به فأتوا منه مااستطعتم ،ومتنهيتكم عنه فانتهوا » [5].
ولايفضل الصحيح المعاق إلا بتقوى الله والتقرب إليه فمن كان عاصيا لله فهو المعاق حقا وصدقا ، فقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أخطر قواعد الإسلام فقال: « أيها الناس ، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى،" إن أكرمكم عند الله أتقاكم "» صحيح أخرجه الدارقطني والطبراني في الأوسط ؛ ولكي ينزع من النفوس بقايا القيم الأرضية قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » رواه مسلم (34 – (2564).
وليعلم أهل الصّحة والعافية أنّ ماهم فيه من النّعم إنمّا هو بسبب هؤلاء الضعفاء ودعواتهم التي يسمعها الله فيستجيبها فقد رأى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه ، فقال صلى الله عليه وسلم : [ هل تنصرون ، وترزقون إلا بضعفائكم ]رواه البخاري ، وعند النسائي :[ إنما نصر الله هذه الأمة بضعفتهم بدعواتهم وصَلاَتِهِمْ وإخلاصهم ]، قال ابن بطال: تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصاً في الدّعاء وأكثر خشوعاً في العبادة لخلاء قلوبهم عن التّعلق بزخرف الدنيا )، وقال الحافظ المهلب : ( أراد e بذلك حضّ سعد على التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حاله ) .
بعض الأحكام التي يحتاجها ذووالإعاقة :
شروط الحكم التكليفي العلم والقدرة والإمكان :
فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه مثل المجنون والطفل ، ولا تجب على من يعجز عن الجهاد كالأعمى والمريض ولا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائما والصوم على من يعجز عنه .
1 ـ نزع الجبيرة لا ينقض وضوءه . الفتاوى ( 21/218 ) .
2 ـ الشيخ الكبير يصلي على حاله ويمسح بخرقة إذا تخلى ويوضأه غيره إن أمكن ويجمع بين الصلاتين بلا قصر .
ويتوجه للقلة فإن لم يستطع صلى حسب حاله . ( 24/5-6 ) الفتاوى .
3 ـ من عجز عن القيام في الصلاة فإن الله يعطيه أجر القائم .
( فمن قعد لعجزه فإن الله يعطيه أجر القائم لحديث ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم ) .
4 ـ من كانت به إعاقة بالنطق كالأثلغ الذي يجعل الراء غينا والإرث الذي يدخل حرفا بحرف أو من يلحن لحنا يحيل المعنى .
فهو كالأمي يجوز صلاته في مثله . المغني لابن قدامة (3/31) ، مجموع الفتاوى (23/350) .
طلاق المجنون والمعتوه لا يصح :
( فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغوا في الشرع لا يصح منها إيمان ولا كفر ولا عقد من العقود ولا شيء باتفاق المسلمين وكذا النائم إن تكلم مناما . الفتاوى ( 14/115 ) .
حديث رفع القلم عن ثلاث : يدل على رفع الإثم على منع الحد .
فقتل غير المكلف كالصبي والمجنون والبهيمة جائز لدفع عدوانهم بالنص والاتفاق إلا في بعض الموضـع .
وأما فعل الفاحشة فإنه يضرب تأديبا ولا يقام عليه الحد إما لانتفاء العلم بالحرمة أو لالتقاء العقل بالجنون وهذه شبهة دارءة للحد . فالعقوبة التي فيها قتل أو قطع تسقط عن غير المكلف .منهاج السنة ( 6/45 ) .
لا يلزم المتقدم لمعاق أو معاقبة الكشف الطبي للتأكد من الجينات الوراثية والواجب إحسان الظن بالله تعالى . ابن باز ـ فتاوى إسلامية ( 3/108 ) .
إسقاط الجنين بعد نصيحة الأطباء لتشوهه جائز قبل نفخ الروح لأنه لم يكن نفسا بعد وسيكون عبئا على نفسه وأهله بعد ، إما إذا نفخت فيه الروح فلا يجوز . ابن عثيمين ـ فتاوى الحرم ( 3/224 ) .
لا يجوز لمن ابتلى بالإعاقة جمع المال ولا مساعدته ما دام أن غير محتاج لأنه قد اتخذ الإعاقة وسيلة للتكسب .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا تزال به المسألة حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم ) الترمذي . ابن جبرين ـ الفتاوى الشرعية في المسائل الطبية ( 1/7 ) .
مناداة الإنسان بصفة فيه كالعرج والعمى :
إن كان للتعريف فلا بأس وإن كان للطعن والغيبة فلا يجوز .
وإن كره مناداته بذلك لم تجز مناداة بها . ابن القيم ـ تحفة المودود (94) ، ابن باز ـ فتاوى إسلامية (4/4004 ) .
ففي الطهارة إذا كان صاحب الإعاقة مثلا مبتور القدم وجعل بدلها قدما صناعية أو اليد الصناعية فإنه لا يلزمه المسح عليها ، أما إذا بقي من الكعب أو اليد شيء وجب غسله وإن لبس عليه خفا مسحه" .
ومن خرجت منه النجاسة وهو لا يشعر أو لعدم القدرة على التحكم لمرض فلا بأس عليه لقوله تعالى : (( فاتقوا الله ما استطعتم ))، (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) فهذا منتهى استطاعته ولا يتوضأ إلا عند دخول وقت الصلاة .
وللمعوق أن يصلي على الحالة التي يستطيعها من ركوع أو سجود ، أو قراءة ، ولو عجز عن الكل وتعطلت حواسه وجب عليه ان يصلي بعينيه ويومئ إيماء ، ولايترك الصلاة مادام عقله حاضرا صحيحا .
وإذا أراد أن يعتمر واضطر للبس ثيابه جاز له ذلك ويذبح شاة يوزعها على فقراء الحرم أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو يصوم ثلاثة أيام قياسا على ما جاء في حلق الرأس .
ويجوز أن يُحجّ عن المعاق إن كان مرضه مزمنا بشرط أن يكون الوكيل قد حجّ عن نفسه .
ولا يجوز للأعمى مسّ المصحف المطبوع بطريقة برايل بغير طهارة . لأن الحروف وضعت للتوصل بها إلى النطق وبذلك يسمى المكتوب بها مصحفا فلا يمسه إلا المطهرون .
ويجوز للمرأة أن تضع حجابها لحضور الأعمى أو أن تكشف وجهها لما ثبت من حديث فاطمة بنت قيس فقد قال لها : (( اِعْتَدِّى في بيت عبدالله بن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده )) متفق عليه .
والكفيف الذي يستطيع السفر إلى مكة مع وجود النفقة والمحرم للمرأة فإنه يجب عليهم أداء فريضة الحج بنفسه وليس العمى عذر وإنما الموت أو العجز هو العذر ، وأما حجة النافلة ففيها خلاف بين العلماء
ويجوز تخصيص صاحب العاهة والمعوق والأعمى من الأولاد بمزيد عطية وعناية ونفقة وهو أحد قولي العلماء واختاره ابن قدامة في المغني .
والمتخلفة عقليا يجب سترها وإلباسها الحجاب : فإن تركها وسيلة إلى الفتنة بها ووقوع الفاحشة والضرر عليها ولا حرج عليه فيما تركت بغير عمد لنقص العقل .
وللمجنون حق في الإرث من التركة إذا وجبت له ما لم يتصف بالرق أو قتله مورثه أو اختلاف معه في الدين"[6] .
خاتمة
إن الإسلام رفع شأن الإنسان وأكرمه على سائر الحيوان ، وحمله في البر والبحر بالعلم والسلطان ، ولم يغفل حالا من أحواله في سائر الأمكنة والزمان ، وجعل له حقوقا وطلب منه أداء واجبات ، ولم يرفع عنه قلم التكليف مادام عاقلا ، لأن العقل نعمة لاتعدلها نعمة إذ جعلها مناط التكليف ، ولم يسقط عن ذوي الإعاقات التكاليف إلا بقدر عجزهم ونسيانهم فهم والأصحاء سواء إلا فيما استثنوا منه ، وفضل الناس بالتقوى وجعلها هي العروة الوثقى التي يتقرب بها المسلم الطائع ولو كان معاقا ، فعلى الإنسانية أن ترعى ذوي الإعاقة لاسيما أهل الإسلام فهم افضل من يقوم بهذا الشأن ولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير إمام .
وكتب العبد الفقير إلى عفو ربه العلي القدير أبو سليمان مختار بن العربي مؤمن الجزائري ثم الشنقيطي تاريخ /14محرم 1434هجرية
[1] – قال الألباني ضعيف .
– بيان "سلامنكا " الذي اعتمده المؤتمر العالمي المعني بتعليم ذوي الحاجات التربوية الخاصة عام 1994 في سلامنكا بأسبانيا يقوم على مبدأ التعليم الجامع .فهو يقر مفهوم "المدارس للجميع [2]
[3] – ابن القيم ـ تحفة المودود (94) ، ابن باز ـ فتاوى إسلامية (4/4004 ) .
[4] – رواه أحمد والنسائي وأبو داود، وصححه الألباني
[5] –
[6] – انظر هذه الأحكام في كتاب "بعض أحكام المعوقين في الشريعة الإسلامية جمع وترتيب د. طارق الطواري كلية الشريعة
الدراسات الإسلامية جامعة الكويت.