الإرجاء والمرجئة
27-10-2020 1242 مشاهدةبسم الله الرحمن الرحيم
الإرجاء والمرجئة
طارق عبد الحليم
إن من الصفات اللصيقة ببني الإنسان : العجلة في الأمور ، وكيف لا ؛ وقد
قال فاطر الناس جل وعلا : وكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً ، ثم منَّ تعالى على المؤمنين
بأن وجّه تلك الفطرة العجولة لديهم إلى معنى قُدّ من العجلة ، إلا أن جالب للبر
والخير ، وهو (المسارعة) إلى الخيرات ، وقد قدمت بهذه المقدمة لأستميح القارئ
عذراً لمسارعتي بالكتابة في موضوع هذه المقالة عن الإرجاء والمرجئة ، رغم أنه
يدخل ضمن مجموعة الكتب التي اعتزمت – وأخ لي – أن نصدرها تباعاً – بعون
الله تعالى – عن الفرق الإسلامية ، والتي صدر منها بالفعل مقدمتها عن أسباب
التفرق والاختلاف ، وما فعلت ذلك إلا بعد أن قدرت مدى الحاجة إلى إظهار عوار
تلك الفئة التي ما زالت جرثومتها خافية تارة ، وظاهرة تارات بين
صفوف المسلمين – بل وعجباً ! بين صفوف الإسلاميين منهم – فتصيب ذلك الكيان
الإسلامي بالضعف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب ، ومعرفة
المفسد من المصلح ، وبالتالي أثرها البالغ السوء في الواقع الإسلامي أخلاقياً
وسياسياً .
ونحن لا نعتزم الخوض في هذه العجالة في تفاصيل مذهب (الإرجاء) ومناقشة
أصحابه فيما ذهبوا إليه ، أو الإتيان على ذكر كافة فروع المرجئة التي انقسمت إليها ،
إلا أننا سنذكر اختصاراً ما ذهبت إليه المرجئة بشكل عام في بدعتهم ، ثم نعرِّج
بنقض تلك الأقوال وبيان وجه الحق فيها كما اختطَّه أهل السنة والجماعة ، ثم نلقي
نظرة على الواقع الإسلامي لنرى مدى تأثره بتلك الجرثومة الإرجائية التي لازالت
تنتقل في الجسد الإسلامي ، لتنخر فيه نخراً يفسد عليه قوته ، ويجعله عرضة
للتفكك والانهيار . بعد أن يفسد المحكوم ويطغى الحاكم ويمهد لكليهما سبل الزيغ
والانحراف .
الإرجاء : مصدر أرجأ بمعنى أخر ، يقال : أرجأ الأمر أي أخره . وقد أطلق
هذا الاسم على طائفة المرجئة لما قالوا بتأخير العمل عن الإيمان ، أي فصله عنه
وتأخير مرتبته في الأهمية كذلك لعدم حكمهم على الفاسق أو الكافر بما هو أهلٌ له ،
وادعاء إرجاء ذلك إلى يوم الحساب وتدور عقائد المرجئة حول الإيمان ، إذا ذهب
أكثرهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان – عدا بعضهم ممن زعم أنه
تصديق القلب ولم يشترط أنه النطق بالشهادتين مع القدرة عليهما – ولم يُدخلوا
العمل في مسمى الإيمان ، فالإيمان عند هؤلاء متحقق كاملاً لمن صدق بالرسالة
ونطق بالشهادتين ، وإن لم يأتي بعمل من أعمال الطاعات !
وقد دخلت عليهم تلك البدع من أصل تصورهم للإيمان ، وأنه واحد لا يتجزأ
ولا يتبعض : أي لا يزيد ولا ينقص .
وقد تمسكت المرجئة في أقوالهم تلك بما ادعوه من أن معنى الإيمان في اللغة :
التصديق ، كما في قوله تعالى : ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ، أي : مصدق لنا .
كذلك بظواهر الأحاديث ، كما في قوله – صلى الله عليه وسلم – ، فيما رواه
مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا
الله » ، وفيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- له : « فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً
بها قلبه فبشره بالجنة » .
وقالوا : إن تلك الأحاديث تدل على أن الإيمان هو : تصديق القلب والتلفظ
بالشهادتين ، وهما كافيان لإثبات الإيمان ودخول الجنة دون العمل ! .
وقد تجاوز بعض من ابتلاهم الله بشبه الإرجاء ؛ فلم يكتفوا بإخراج أعمال
الطاعات من الواجبات والمستحبات من مسمى الإيمان بل كذلك الأعمال اللازمة
لتحقيق التوحيد ، كالحكم بما أنزل الله من الشرائع – والذي هو من معاني الشهادتين
والمتعلق بتوحيد ألوهية الله عز وجل – ولم لا ؟ ! والإيمان محله القلب والتصديق
متحقق ؟ ! وما يضر من يترك التحاكم بغير إثم أو ذنب يقترفه مثله كمثل سارق
البرتقالة ، أو من يؤذي جاره ؟ ! .
فأتوا بذلك بما لم يأتِ به الأولون من أسلاف المرجئة ، ومهدوا لما سنلقي
عليه نظرة عاجلة في واقع المجتمع الإسلامي .
ونقض مذهب الإرجاء يكون بطريقتين : أحدهما : عام ، يتناول نقض مبادئهم
في النظر إلى الشريعة – وهو ما اشتركت فيه معهم سائر أهل البدع والأهواء – ،
والآخر : خاص ، يتناول الرد على أقوالهم قولاً قولاً ، وبيان فسادها بالأدلة
الشرعية .
وسنتناول كل طريق منهما بشكل موجز ، يتناسب مع ما قدرناه لهذا المقال من
إيجاز .
أولاً – الرد العام :
سلك أهل البدع والأهواء طرقاً معينة في دراستهم للنصوص الشرعية ، أدت
بهم إلى النتائج التي وصلوا إليها ، نجملها فيما يلي :
1- عدم الجمع بين أطراف الأدلة ، وذلك باتباعهم أول دليل يرونه دالاً – من
جهة معينة – على ما أرادوه ، فإذا صادفوا دليلاً آخر لم يجمعوا بينه وبين الأول ،
بل أولوه أو ضعفوه أو أخفوه ! بينما (مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على
أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المترتبة
عليها ، وعامها المترتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها
المفسر بمبينها ، إلى ما سوى ذلك من مناحيها) .
2- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ، مع ترك الأحاديث
الصحيحة وإغفالها ، بينما مسلك أهل السنة هو في اتباع الحديث الصحيح وما يصح
الاحتجاج به في الأحكام الشرعية ، سواء ما صح أو حسن حسب قواعدهم في ذلك .
3- التعويل على جزيئات الشريعة دون ربطها بالقواعد الكلية التي تحكمها
وتنتظمها .
4 – تحريف الأدلة عن مواضعها ، وهو نوع من تحريف الكلم عن مواضعه
الذي ذمه الله تعالى في كتابه ، وذلك بإيراد الدليل المقصود به مناط معين أو واقعة
محددة لتطبيقه على مناط آخر – أو واقعة أخرى – وهي العملية التي تسمى عند
الأصوليين : (تحقيق المناط) ، ولا شك أن (من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلام
عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له وجهل يصده عن الحق ،
مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً) .
فإطلاق الدليل وتوهم أنه يعم كافة الحالات الداخلة تحته دون تقييد فهو من
جملة من حرف الكلم عن مواضعه وصار إلى الابتداع بدلاً من الاتباع .
[الاعتصام 1/223] .
ثانياً – النقض الخاص :
إن ما استدلت به المرجئة من أن الإيمان هو التصديق فليس بصحيح ، والحق
أن الإيمان اسم شرعي استعمله الشارع ليدل به على معاني محددة في الشرع ، هي
مجموعة الأقوال والأفعال التي يتركب منها ، فلا مدخل للمعنى اللغوي إذ (مما
ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرِف تفسيرها وما أُريد
بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال
أهل اللغة وغيرهم) .
[ الإيمان لابن تيمية : 245 ]
هذا إلا أن الإيمان لا يعني لغة التصديق من وجوه عدّة (فإنه يقال للمخبر إذا
صدقته : صدقه ، ولا يقال : آمنه وآمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال : فَآمَنَ
لَهُ لُوطٌ ، وقال : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ « فإن تعدى باللام كقوله : آمن له ،
كان تصديقاً وإن تعدى بالباء كان الإيمان الشرعي المتضمن للعمل .
[ الإيمان : 248 ]
كذلك فإن قسيم الإيمان ليس التكذيب بل الكفر ، فيقال لمن لم يصدق : قد
كذب ، ومن لم يؤمن : قد كفر .
ووجه آخر في لفظ التصديق والتكذيب : يطلق على ما هو غائب أو مشاهد ،
أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغيب [ الإيمان : 249 ] .
والإسلام والإيمان اسمان يدلان على معنى واحد إن انفردا ، وهو الاستسلام
لله والعبودية له سبحانه ظاهراً وباطناً ، لكنهما إن اجتمعا دل كل منهما على معنى
غير الآخر ، فدلّ الإسلام على الأعمال الظاهرة من الصلاة والصوم والحج ، ودلّ
الإيمان على الأعمال الباطنة ، كالخشية والمحبة والخوف ، من أعمال القلوب .
وقد دلت الآيات والأحاديث على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان – وعليه
أجمع الصحابة والتابعون وسلف الأمة – فهو : قول وعمل ، يزيد وينقص ، يزيد
بالطاعات ، وينقص بالمعاصي ، قال تعالى : لِيَزْدَادُوا إيمَاناً مَّعَ إيمَانِهِمْ .
وما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – : « الإيمان بضع وسبعون شعة أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله
إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان » .
كذلك ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس ، قال
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم
رمضان ، وأن تؤدي خمساً من المغنم » .
فالإيمان – إذن – قول وعمل ، قول القلب وهو : التصديق ، وعمل القلب :
وهو : الإقرار والخضوع المستلزم للمحبة والانقياد ، وقول اللسان : وهو : النطق
بالشهادتين ، وعمل اللسان والجوارح ، وهو العمل بالطاعات ، وترك المحظورات
من الشريعة ، وهو يزيد وينقص .
ثم ننظر إلى استدلال المرجئة – سلفاً وخلفاً – بأحاديث الشفاعة على أن قول
الشهادتين تلفظاً يُثبت لصاحبة الإسلام والإيمان ، وإن أتى عملاً من أعمال الكفر ،
كترك التحاكم إلى الشرع ، فنرى أنها هي طرق أهل البدع في عدم جمع أطراف
الأدلة ، والنظر في الأحاديث .
قالوا : روى مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب في حديث جبريل : قال : قال
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد
رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلاً » .
وأغفلوا الرواية التالية لها مباشرة في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ،
وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان » .
كذلك حديث أركان الإسلام الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر عن
أبيه ، قال عبد الله : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « بُني الإسلام على
خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء
الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان » .
وأغفلوا رواية مسلم الأخرى : في الباب نفسه عن ابن عمر عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال : « بُني الإسلام على خمسة : على أن يُوحَّد الله ، وإقام
الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، والحج » .
وغير ذلك من الأحاديث التي ذكروا فيها رواية وأسقطوا روايات ، والتي تدل
على أن التلفظ بالشهادتين المعتبر شرعاً هو توحيد الله وعبادته ، وترك الشرك ،
وأن التلفظ بالشهادتين دلالة على قيام ذلك المعنى في النفس وفي البدن قولاً وعملاً ؛
ما لم يأت بعمل ظاهر َيكْفُر به ، فلا اعتبار حينئذ بتلفظ ، وهو المعنى الذي ذكره
ابن القيم في إعلام الموقعين من أن الألفاظ تراد لمعانيها لا لذواتها وما فصله من
اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ .
[مسلم بشرح النووي 1/157]
وبعد .. فما هي الدوافع التي أدت إلى ظهور المرجئة في التاريخ ؟ وما هي
عوامل بقائهم واستمرارهم ؟ لذلك الأمر تفصيل يضيق عنه نطاق هذا المقال ولكن
لا بد من كلمتين توفيان بالغرض في هذا المقال .
أما عن بداية الإرجاء فقد زعم بعض من تناول ذلك الأمر أنها ترجع إلى
موقف بعض الصحابة إبان إطلال الفتن برأسها عند إرهاصات قيام الدولة الأموية ،
وهم الذين لم يشاركوا في تلك الفتن إلا أننا نرى أن ذلك تزيد معيب على تلك الفترة
يحمّلها أكثر مما تطيق ، ويجعلها نواة كل فساد ظهر في تاريخ المسلمين بعدها ، وما
اعتزل بعض الصحابة الفتنة إرجاءً بل إن منهم من لاح له وجه الصواب فاتبعه ،
ومنهم من غمض عليه جلية الأمر فآثر السلامة وحسب .. ! وهو موقف معتاد في
مثل تلك الظروف أن يشارك البعض ويعتزل البعض الآخر ! ، ولعل بعض
المفكرين يخرج علينا بأن هؤلاء – كذلك – هم نواة المعتزلة ؛ لاعتزالهم ذلك الأمر!.
[ انظر إعلام الموقعين 3/105 ]
وما نرتضيه في هذا المقام إيجازاً أن مذهب الإرجاء يتناسب مع من يتميع في
موقفه ويؤثر السلامة على المخاطرة وإن كانت بالباطل ، فإن من تلفظ بالشهادتين
مؤمن كإيمان جبريل ! والأعمال لا تدل على إيمان وفسق أو حتى كفر ، وليس لنا
أن نزيف الباطل ونظهر عوار المفسد وندل على سوءاته ونسير فيه سيرة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في معادلة الفاسق أو المذنب أو الكافر ، فمن ثم فهو
مذهب يتناسب مع الحاكم الظالم – أو الحاكم الكافر حسب الحالة – فلن يثير أرباب
هذا المذهب خلافاً مع الحاكم مهما أتى من أفعال ، فهو مؤمن على كل حال ، أليس
يتلفظ بالشهادتين ؟ ! ثم ما لنا ندخل في سرائر الناس وندعي معرفة مكنونات
صدورهم ، مادام العمل الظاهر لا مدخل له في قضية الإيمان ، وأن اعتقاد القلب
هو المعوّل عليه في ذلك ، أليس يكفي ما ينطق به الحاكم لنكون معه في صف واحد
ومسيرة واحدة نهادنه ونتعذر له المرة تلو المرة لنظل نعيش نتفيأ ضلال حكمه ،
وإن ظهرت منا في بعض الأحيان – أو كلها – معاتبة أو معارضة فإنما هي معاتبة
التصديق ، ونصح الأخ المؤمن لأخيه ، أو هي معارضة الخاضع ، وتبرم السائر
تحت اللواء ! .
ثم عامل آخر قد يكون له بعض الأثر في إطلال الإرجاء برأسه ، بل هو إلى
عوامل استمراريته أقرب – وهو ظهور طوائف المنتسبين إلى مذهب الخوارج فكراً
وعقيدة – وإن لم يكن بالضرورة اسماً – مما يزين لمن لم يتعمق النظر في دراسة
العقائد وترجيح الصالح من الفاسد من الآراء – وغالبهم من الشباب على مر التاريخ
دون رءوس الفتنة الذين يعون ما هم عليه من البدعة ، بل وبعضهم يقصد إليه
قصداً – أن ينتسب إلى فكر الإرجاء قولاً وعملاً – دون تسمية ودون وعي منهم
بذلك ولا إدراك لحقيقة مذهب السلف الصالح ، وهذا التصرف كرد فعل غير
مدروس للأفكار التي تجنح للتطرف والغلو في فهم العقيدة في الجانب الآخر ، وكلا
جناحي الإفراط والتفريط إن هي إلا ردود أفعال سلبية للحكم غير المشروع الذي
يسود المجتمعات الإسلامية في أي عصر من عصورها .
فالإرجاء إذن مذهب سياسي – أو قل : موقف سياسي – اتخذ طابع البحث
في أوليات العقائد مع استشراء تلك الموجة في بداية عصر الأمويين وظهور علم
الكلام – كما بينا عوامل ذلك في مقدمة أسباب الاختلاف – كان موقفاً سياسياً في
الحكام الظالمين ، يوم أن كانوا لا يزالون يحكّمون شرع الله ، وإن تجاوزوا الحد
وأفرطوا في الظلم ، ثم استمر على ذلك النهج منهجاً للضعاف ممن يريدون مهادنة
الظالم وتبرير مواقف الضعف والخزي ، حتى وإن تجاوز الظلم إلى الكفر ، ومن
هنا نرى أن المرجئة لم يكونوا هدفاً للسلطة الغاشمة الظالمة في عصر من العصور،
بل كان منهم شعراء وعمال للحكام ، كثابت قطنة الذي كان والياً ليزيد بن المهلب
على بعض الثغور ، بل إنه مذهب يصلح أن يدعيه الحاكم نفسه ليكون برداً وسلاماً
على كافة الطوائف المبتدعة .
فالمرجئة – إذن – في صلحٍ خفي ومهادنة غير مكتوبة مع الحاكم يتمتعون
بالحرية في الحركة والقول جميعاً ، بينما يُضرب على يد من سواهم من أهل السنة
والجماعة ، كما حدث لأئمة الفقه والحديث ، كمالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية ،
وكثيرين غيرهم ممن اتبعوا منهج السلف الصالح في الفهم عن الكتاب والسنة .
وليست هذه هي الكلمة الأخيرة عن الإرجاء والمرجئة كما قدمت في أول
المقال ، ولكنها نفثة غلت في الصدر وارتجّ بها القِدْرُ ، فلم يكن بُدِّ من إظهارها ! .
وقد اتبعت فيها مذهباً أراه يعين الباحث في مثل تلك الأمور ، وهو التحليل
النفسي لفهم الدوافع وراء تلك العقائد المنحرفة ، وهو مذهب ارتضيناه في أسباب
الاختلاف وسنجعله بعون الله تعالى أحد مصادرنا في دراسة أمثال تلك الفرق التي
تحمل معول الهدم والخراب لتهدم به صرح الإسلام من داخله ، عارفةً بذلك أو
جاهلةً .
واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ .
________________________