إخلاص الخطيب
28-10-2020 1348 مشاهدةبسم الله الرحمن الرحيم
إخلاص الخطيب بقلم مختار بن العربي مؤمن
الإخلاص في اللغة : تخليص الشيء وتجريده من غيره, فالشيء يسمى خالصا إذا صفا عن شوبه وخلص عنه, ويسمى الفعل المصفى المخلص من الشوائب إخلاصا، قال في اللسان : وأَخْلَص للّه دِينَه أَمْحَضَه[1]، وتقول : ذهبٌ خالصٌ، أي خالٍ من الشوائبِ، ويقالُ : أخلص النصيحة، أي أوفى فيها.
واصطلاحا هو : إفراد الله سبحانه وتعالى بالقَصْدِ ، وهو أن يريد العبد بطاعته التقرُّب إلى الله دون شيء آخر .
إنَّ الإخلاص هو جوهر الإسلام ،وحقيقة الدّين ، ومفتاح دعوة المرسلين ، وزينة يتحلّى بها الدّاعون لربّ العالمين ، ولاإخالك أخي الخطيب إلا أنك تحفظ الكثير من الآيات التي تبيّن حقيقة الإخلاص وثمرته ،وعاقبة فقده من القلب ، وتعرف الكثير من أحاديث النبي e التي تدعو إلى إعمار القلب بعبادة الإخلاص الذي لا يطلع عليه شيطان فيفسده ،ولاملك فيكتبه ، فوَقُودُ خُطَبِك المؤثرة هو إخلاصك لربّك واستقامتك على منهج نبيك e قال سبحانه : ) وَ مَنْ أَحْسَنُ دِينَاً مِمَنْ أَسْلََمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِن ( [2]، وقال سبحانه ) فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) ( [3]، وعن أبي أمامة t قال جاء رجل إلى رسول الله e فقال : أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَالَهُ ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : « لَا شَيْءَ لَهُ ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e : لَا شَيْءَ لَهُ »، ثُمَّ قَالَ : « إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»[4].
وقال e: « ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ : إِخْلاَصُ الْعَمَلِ ِللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الأَمْرِ ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ »[5] .
وإنّ الله لايرضى من عبده المسلم أن يجعل الأعمال قسمةً بينه وبين الشركاء ، ولا أن يجعل في أقواله نصيبا للأنداد فهو سبحانه الغنيّ عن كلّ ذلك ، فكيف بمن انتصب قدوة للنّاس ، فلحظته العيون ، وأحاطت به الظنّون ، فكانت حسناته قدوة صالحة ، وخطاياه معاول هدم طالحة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله e : « قال تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركته وشركه » [6].
فمن أين يأتي الخطيب التّوفيق والسداد ، وأنى له بالهدى والرشاد ، إذا ظهر في نيته الفساد ؟!.
ففي حديث عمر بن الخطاب t قال سمعت رسول الله e يقول « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » [7] .
والخطيب العالم هو العامل بعلمه ، أقوالُه أفعالٌ، وأحواله سلوك وامتثال ، لم يعتل المنابر ليصيب بعلمه الدنيا، وإنما ليجعل دنياه ودنيا الناس الذين يؤمُّونه مزرعة للآخرة وقد قال e : « مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ ، لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا ، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- يَعْنِى رِيحَهَا – » رواه أبو دواد[8] .
إنّ الكلمة المؤثرة هي التي تصدر من قلب قد تزيّن بالإخلاص ، فإذا بها تخترق شغاف القلوب لتستقرّ في سُوَيْدَائِهَا ، فتجعلها روضةً غنَّاء بكلّ معان الخير والنبل والصفاء ، والكلمة الميتة هي التي تخرج من قلبٍ خربٍ من آثار الصدق وحقيقة الإخلاص ، فتولد ميتة كما خرجت لاحياة فيها ولانماء .
" ثم اعلم – رعاك الله – أنَّ أولى ماينبغي أن يكون عليه الخطيب الواعظ ، أن يبدأ بنفسه فيعظها ، وأن يخلص قوله لله وعمله ،وأن يفرغ من شهوات نفسه ، فلا تملكه شهوة الشهرة والجاه ، ولاتجرفه شهوة الغنى ،ولاشهوة النساء ،وأن يكون في فعله أوعظ من قوله " [9] .
وقد جاء في أسامة بن زيد t أن النبي r قال : « يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ »[10] .
وفي ذلك يقول الشاعر[11] :
لا تنْهَ عن خُلُق وتأتِيَ مثلَهُ |
|
عارٌ عليكَ إِذا فعلتَ عَظيْمُ |
وقال آخر :
مواعظُ الواعظِ لن تُقْبَلاَ |
|
حتىَّ يَعِيهَا قَلْبَهُ أوَّلا |
ومن دليل إخلاصه لله ألا يخشى في تبليغ رسالة ربّه لومة لائم ، وكلّ ذلك بحكمة ، وعلم ،ورفق ،وصبر ، وقدوة صالحة .
ومن دليل إخلاصه: قبوله النّصح ممن يسديه له في إصلاح عيبه وخطئه .
ومن دليل إخلاصه: إتقانه في عمله واهتمامه بخطبه ، وذلك بحسن صياغتها ، وترتيب محاورها ، والنظر فيما هو أولى للعامة ، وأنفع للخاصة .
واعلم أخي الخطيب " أنّ هذا مقام تشيب منه النّواصي ،ولايعتصم منه بالصّياصي[12] ،فينبغي لك أن توفِّر العناية عليه ،والجدّ فيه ،مستعينا بالله تعالى ،فمن لم يساعده القدر لم ينفعه الحذر، ولقد قطع الكبر من استكبر "[13] .
"وتيقّن بأنّ أيّ عمل أو قول تفعله فإن النية الصادقة هي رأس أمره، وعموده ،وأساسه ،وأصله الذي عليه يبنى ،فإنها روح العمل ، وقائده ، وسائقه ،والعمل تابع لها يبنى عليها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها ،وبها يستجلب التوفيق, وبعدمها يحصل الخذلان, وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة " [14].
فأخلص لله طويتك ،وجدد عند كل مقال نيتك ، فإنها أصعب تحصيلا ، قال يوسف بن أسباط : تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد[15].
وقال أبو عبيدة بن عقبة : من سرَّه أن يُكمَّل له عمله فليُحسِّن نيته فإنَّ الله عز وجل يأجر العبد إذا أحسن نيته حتى باللقمة يأكلها[16].
قال سهل بن عبدالله التستري : ليس على النّفس شيءٌ أشقَّ من الإخلاص لأنّه ليس لها فيه نصيب [17].
وقال ابن عيينة : كان من دعاء مطرِّف بن عبد الله : اللّهمّ إنّي أستغفرك ممّا زعمتُ أنّي أريد به وجهك ، فخالط قلبي منه ما قد علمت[18] .
وقال أبو حازم سلمة بن دينار المديني المخزومي :لا يحسن عبدٌ فيما بينه وبين ربّه إلاّ أحسن الله ما بينه وبين العباد ، ولا يعوِّر ما بينه وبين الله إلا عوَّر الله ما بينه وبين العباد ، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلّها "[19] .
قال عامر بن عبدالقيس: إذا خرجت الكلمة من القلب دخلت القلب، وإذا خرجت من اللّسان لم تتجاوز الآذان "[20].
قال الغزالي في الإحياء: "ويقال العلم بذر، والعمل زرع ، وماؤه الإخلاص؛ وقال بعضهم : إذا أبغض الله عبدا أعطاه ثلاثا ومنعه ثلاثا :أعطاه صحبة الصالحين ، ومنعه القبول منهم ، وأعطاه الأعمال الصالحة ،ومنعه الإخلاص فيها، وأعطاه الحكمة ومنعه الصّدق فيها"[21].
أخي الخطيب إنّ العقبة كؤود ،وإن الحمل ثقيل ،وإن الناقد بصير ،فأخلص نيتك، وأصلح سريرتك ، واستقبل زمانك بالإخلاص والصدق مع الله ، وانصح لعباد الله تَفُزْ بالفلاح في الدارين ،جعلني الله وإياك من المخلصين آمين.
[1] – لسان العرب مادة(خلص).
[2] – من الآية(125) النساء.
[3] – من سورة الكهف.
[4] – أخرجه النسائي 6/25 (3140) قال الشيخ الألباني : حسن صحيح .
[5] – رواه ابن ماجة(3056) من حديث أنس بن مالك t ،قال الشيخ الألباني : صحيح .
[6] – أخرجه أحمد 2/301(7986) ، و مسلم( 8/223) ،(7584).
[7] – رواه البخاري (1) ،و مسلم رقم( 1907).
[8] – "أحمد( 2/338) (8438) و"أبو داود( 3664) من حديث أبي هريرة t .
[9] – بتصرف من مقال لفضيلة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى بعنوان " الوعاظ والخطباء " ص195 ضمن مجموع من المقالات في " كتاب أدب الخطيب " لابن العطار الدمشقي بتحقيق محمد بن الحسين السليماني ط/1996 دار الغرب الإسلامي .
[10] – أحمد (5/205) و البخاري (6685) ، ومسلم (2989) .
[11] – هذه الأبيات تنسب إِلى أبي الأسود الدؤلي وهو ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي الكناني.
[12] -الصَّياصي الحُصونُ وكلُّ شيء امْتُنِع به وتُحُصِّنَ به فهو صِيصةٌ ومنه قيل للحصون الصِّياصِي (لسان العرب) مادة : صيص .
[13] – الذخيرة للقرافي (48-49)ط/ دار الغرب.
[14] – إعلام الموقعين (2/199) .وانظر الموافقات للشاطبي ففيه فصول مهمة (2/218).
[15] – أخرجه: الدينوري في " المجالسة " ( 1946 ) و( 3424 )، وأورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (3/19) .
[16] – الزهد لابن المبارك (542). تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
[17] – أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/207 . وأورده ابن رجب في :جامع العلوم والحكم 1/42).
[18] – نفس المرجع والصفحة .
[19] – سير أعلام النبلاء للذهبي(11/124)
[20] – نثر الدّرّلأبي سعد منصور بن الحسين الآبي(4/107) ، /العلمية – بيروت – 1424 هـ -تحقيق : خالد عبد الغني محفوظ .
[21] – الإحياء للغزالي(4/ 379).