أيُكذب على رسول الله وأنا حي!
08-11-2022 511 مشاهدةأيُكذب على رسول الله وأنا حي!
الشيخ مختار بن العربي مؤمن
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام
🔴 لتحميل المقال من قناتنا على تيليجرام:
https://t.me/mokhtarmoumene/805
================================
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
لم يَسْلَمْ نبيٌّ من الأنبياء ولا رسولٌ من رسل الله عليهم صلوات ربّي وسلامه من الأذى والافتراء والكذب عليهم، وتحريف رسالاتهم التي جاؤوا بها، وقد وكل الله للأمم السابقة حفظ كتبهم والعناية بها؛ لكن فئاماً منهم رضعت لبان الشر والإفك لم تلبث أن زوّرت وحرّفت الكتب المنزلة، واشترت بها ثمناً قليلاً، قال تعالى: ﴿بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ۚ ﴾ [المائدة: 44].
قال القشيري: “يخبر أنّه استحفظ بني إسرائيل التوراة فحرّفوها، فلما وكل إليهم حِفظها.. ضيّعوها”.
وأمّا هذه الأمة المحمدية فقد اختصّها الله بالقرآن الكريم، وتولّى -سبحانه- حفظه عليهم فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾[الحِجر: 9] فلا جرم لو غيّر واحد حركة أو سكوناً من القرآن لنادى الصبيان بتخطيئه(1).
ولـمّا تعهد الكريم سبحانه بحفظ القرءان تعهد ضمناً بحفظ ما يبيّنه ويفسّره من السنة النبوية، فتجد في عصر العولمة لا يزال الحديث محفوظاً في الصدور والسطور، وكذلك ما يقيم لسانه من الآلات اللغوية والنحوية والصرفية والبلاغية وغيرها، فلا يزال الوحي محفوظاً، رغم كيد الكائدين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين وتحريف الضالين.
فعن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري قال: قال رسول الله ﷺ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ»(2).
ظهور الوضع في الحديث
لقد كان للإسلام ونبيه الكريم ﷺ أعداء كُثر، أظهروا دسائسهم أحياناً، وأخفوها كثيراً، لهدم الإسلام ودسّ السم فيه، ولما عجزوا عن تحريف القرءان عمدوا إلى السُّنة فوضعوا فيها كثيراً من الأحاديث المكذوبة الـمُختلَقة على النبي ﷺ وأصحابه. مما استدعى جهود الجهابذة من علماء الحديث لينفوا وضع الكذابين، وانتحال المبطلين الضالين، ولقد كان أول ظهور للوضع بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، على أيدي الفئام المهزومة من دول الكفر كالفرس والروم وغيرهما، فعمّت بذلك البلوى وانتشر الحديث المكذوب في العقائد والعبادات والوعظ والترغيب والترهيب، وفي تفاسير القرءان، والسيرة، والتزلف للسلاطين، وتشريف القوميات، وغير ذلك من الكذب والافتئات على خير البريات.
تعيش لها الجهابذة
نقل الإمام الراوية الناقد العَلَم في الجرح والتعديل ابن أبي حاتم، قائلاً عن الإمام المحدث عبدالله بن المبارك (181هـ)، أنه جاءه شخص متخوِّفًا من كثرة الكذَّابين والوضَّاعين الذين كذَبوا على رسول الله ﷺ، فجاءه فزعًا قائلًا: هذه الأحاديث المصنوعة! فكان الجواب من الإمام بكل ثقة واطمئنان إلى جهود الـمُحدّثين فقال: “يعيش لها الجهابذة”(3).
ولقد بلغ بهم الحال أن نصبوا أنفسَهم للتحدِّي في اختبارهم في هذا العلم، بل وتحذير الكذَّابين من الكذب وهم أحياء، قال أبو حاتم الرازي وهو يتحدى معاصريه: “مَن أَغرب عليَّ حديثًا غريبًا مسندًا صحيحًا لم أسمع به، فله عليَّ درهم يتصدّق به”(4).
ولقد حصل مثل هذا أكثر من مرَّة لغير واحد من الجهابذة مثل قول الإمام الدارقطني (385هـ): “يا أهل بغداد، لا تظنوا أن أحدًا يقدر يكذب على رسول الله ﷺ وأنا حيّ”(5).
وكان محمد بن إسحاق بن خزيمة (311هـ) يقول: “ما دام أبو حامد الشرقي في الأحياء لا يتهيَّأ لأحدٍ أن يكذب على رسول الله ﷺ”(6).
بل إن عليّ بن الـمَديني لم يرَ حرجاً في تضعيف والده لما سُئل عنه، فقد ذكر ذلك ابن حبان في المجروحين، أن عبدالله بن جعفر بن نجيح مديني، والد علي بن المديني، يُكنى أبا جعفر، سكن البصرة، ثنا أحمد بن الحسين الصوفي ثنا داود بن رشيد ثنا عبد الله بن جعفر المديني يعني أبا علي بن المديني ثنا محمد بن أحمد بن حماد وابن أبي بكر قالا ثنا عباس عن يحيى قال عبد الله بن جعفر: أبو علي المديني ليس بشيء، سمعت عبدان سمعت أصحابنا يقولون: حدّث علي بن المديني عن أبيه ثم قال: وفي حديث الشيخ ما فيه، أو قال: فيه شيء”(7).
ومنطلق هذا التجرّد وهذه الموضوعية هو الذبُّ عن حديث رسول الله ﷺ، وقد صرَّح بذلك يحيى القطان حين قيل له: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركتَ حديثَهم خصماءَك عند الله؟! قال: “لأن يكون هؤلاء خصمائي أحبُّ إليَّ من أن يكونَ خصمي رسول الله ﷺ، يقول: لِمَ حدَّثت عني حديثًا يُرى أنّه كذب؟!”(8).
“لقد عرف الجهابذة النقاد، الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي ﷺ، ولكلام غيره، ولحال رواة الأحاديث، ونقَلة الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها، وخالصها ومشوبها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلاً لغيره، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممّن يعلم هذا العلم، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة”(9).
تعريف الحديث الموضوع
الحديث الموضوع: هو الكلام الذي اختلقه بعض الناس ونسبوه للرسول ﷺ.
قال البيقوني في منظومته:
والكذب الـمُخْتَلَقُ المصْنُوع على النّبي فذلك الموضوع
مرتبته بين أنواع الحديث
يُعَدُّ الحديث الموضوع أسوأ وأقبح قسم من أقسام الحديث الضعيف، لأنّه مختلَق مفترَى، لا يصلح ولن يصلح للعمل به، لا في الأحكام، ولا في الفضائل، ولذلك هو في الحقيقة لا يُسمى حديثاً إلا بزعم واضعه الخبيث.
الترهيب من الكذب على النبي ﷺ
إنّ الكذب في حدّ ذاته منقصة ذميمة في حق الإنسان، مسلماً كان أم كافراً، ذكراً أو أنثى، فكيف إذا كان الكذب على أشرف الخلق ومبعوث الحق بالحق؟ فذاك أعظم افتراءً وأشد عذاباً! فعن سلمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”(10). وقد بلغ مبلغ التواتر.
وعن عليّ رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: “لا تكذبوا عليَّ، فإنه من كذب عليّ فليلجِ النار»(11).
قال الحافظ السخاوي: “… لأنّ الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره من الخلق والأمم، حتى اتفق أهل البصيرة والبصائر أنه من أكبر الكبائر، وصرح غير واحد من علماء الدين وأئمته بعدم قبول توبته”(12). أي: الوضاع الكاذب.
وذهب بعض العلماء إلى القول بكفر واضع الحديث متعمدًا، وعلى رأسهم الإمام الجويني، وهو والد إمام الحرمين الشافعي المعروف، وأيّد الجوينيَّ في هذا العلامة ابنُ الوزير، واستدل عليه في التنقيح بقوله الله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس:17]، فسوّى بين الكذب على الله وتكذيبه. انتهى.
ونقل الحافظ ابن كثير عن أبي الفضل الهمذاني شيخ ابن عقيل من الحنابلة، أنه وافق الجويني في هذا الكلام، قال السيوطي -رحمه الله- في الألفية:
وجزم الشيخ أبو محمّد بكفره بوضعه إنْ يقصِد
والرَّاجح أنّ الوضع من أكبر الكبائر.
ولا يحلّ لأحد أن يرويه منسوباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا مقروناً ببيان وضعه، وهذا الحظر عام في جميع المعاني، سواء القصص والتّرغيب والتّرهيب وغيرها.
كيفية معرفة الأحاديث المكذوبة
رسم العلماء الجهابذة طرقاً لأهل الحديث وذلك لكشف زيف الكذَّابين المفترين، الوضاعين أحاديثَ يزعمون أنها من سلسلة الوحي الأمين، وقد لخصوا بعض تلك الطرق منها:
أولاً: أن يكون مخالفاً للقواعد الكلية أو الدلالة القطعية.
ثانياً: ركاكة اللفظ تدل على الوضع؛ لأن النبي ﷺ أُوتي جوامع الكلم.
ثالثاً: ركاكة المعنى تدلّ على وضع الحديث. وركاكة المعنى أنه يجمع بين نقيضين، فيأتي بحديث بالحل والحرمة في أمر معين، وهذا لا يمكن؛ لأنه لا يمكن لعاقل أن يجمع بين نقيضين، فضلاً عن أن يكون النبي ﷺ الذي يأتيه الوحي من السماء.
رابعاً: أن يجمع بين الاثنين: يأتي بركاكة اللفظ مع ركاكة المعنى.
والوضع كما قلت كان كثيراً في هذه الأمة؛ لكن كشفه الجهابذة كما تَقدم.
نصيحة لكل المرشدين والكتَّاب والمدونين على وسائل التواصل الاجتماعي
لا تجعلوا أنفسكم ضمن قائمة الكاذبين على رسول الله ﷺ وتأكدوا من صحة الأحاديث.
قال السيوطي في ألفية الأثر:
الْخَبَرُ الْمَوْضُوعُ شَرُّ الْخَبَرِ وَذِكْرَهُ لِعَالِمٍ بِهِ احْظُرِ
فِي أَيِّ مَعْنًى كَانَ إِلا وَاصِفَا لِوَضْعِهِ،……….
فلذلك ينبغي لكل مسلم حريص على سُنة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه أن يتأكد من عدم نشره ومشاركته في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بالبحث عن صحة الأحاديث وضعفها وقبولها وردها، حتى لا يكون أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلئن كان العلماء شددوا على من يَلحن في قراءة الحديث فما بالكم بمن ينشر أو يشارك في ذلك؟ خاصة مع وسائل التواصل الحديثة التي أصبحت الكلمة فيها تبلغ الآفاق، فلنتقِ الله في وحي الله عزّ وجلّ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولنحتَطْ لديننا وسُنة نبيّنا؛ فالأمر خطير لا سيما مع تساهل النّاس وجهلهم بهذا الأمر الخطير، حتى صار اليهودي والنصراني والملحد ينشرون ما يشتهون في تضليل هذه الأمة، وعلى الدعاة والعلماء وطلبة العلم بيان خطر الأحاديث الضعيفة والموضوعة وخطرها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه الكريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القشيري لطائف الإشارات (1/425).
(2) أخرجه البيهقي وصححه غير واحد من أهل العلم، انظر تحقيق العلامة الألباني، مشكاة المصابيح، كتاب العلم، الفصل الأول، (1/ 53).
(3) الجرح والتعديل، (1/2-3).
(4) الجرح والتعديل، (1/355).
(5) الموضوعات، لابن الجوزي، (1/45).
(6) المصدر السابق.
(7) ابن حبان، المجروحين (2/ 15). ويُنظر: ميزان الاعتدال (2/ 401)، الضعفاء والمتروكين، لابن الجوزي (2/ 118)، تهذيب الكمال (14/ 383)، تهذيب التهذيب (5/ 153)، وابن عدي في الكامل (4/ 176).
(8) تاريخ دمشق، لابن عساكر، (54/393).
(9) حاشية على جامع العلوم والحكم لابن رجب، تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط (2/ 105).
(10) البخاري، (109).
(11) البخاري، (106).
(12) المقاصد الحسنة، للسخاوي، (ص4).