رمضان وبناء الأمة

27-10-2020 1075 مشاهدة

 

 

 

 

 

 

  رمضان وبناء الأمة

من إعداد أبي سليمان : مختار بن العربي مومن

الباحث الشرعي بإدارة الدعوة بوزارة الأوقاف والشؤوون الإسلامية بدولة قطر 

 

 

 

 

 

 

                          بسم الله الرحمن الرحيم    وصلى الله وسلم على نبيه لأمين .

الآية : قال تعالى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان "[ البقرة: 185].

الحديث : [وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ] الترمذي : 3545].

رمضان ويناء الأمة  :

أيها الأحبة إن المتأمل في الآية السّالفة الذكر ليدرك إدراكا جازما أن رمضان هو موسم التغيير ، فقد أشارت الآية إلى أن رمضان ليس هو شهر حبس النفس عن الطعام والشراب وغيرهما فحسب  ، بل هو نبراس التغيير الجذري لحياة المسلمين من الجاهلية المظلمة إلى الإسلام الحق ، لأنّ فيه نزلت الآيات البينات التي فيها الهدى للناس ، والفرقان الساطع الذي يفرّق بين الحق والباطل ، قال تعالى " "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ".

وإن المتبصر بالحديث أعلاه ليلمس ذلك الفارق الذي يحدثه رمضان شهر التغيير في النفس والمجتمع ، تغيير تظهر نتائجه في عتق العبد  من النار،  فَلِمَ لايعتقُ نفسه من أغلال الشهوات طول حياته ، ولماذا لايعتق نفسه من هواها ، ويسلم وجهه لله تعالى الواحد الأحد ، فتتغيّر حياته إلى تحكيم لشرع الله ، وتلبية لنداء الله لأهل الإيمان ليدخلوا في الإسلام بكل تفاصيله وجزئياته .

ادخلوا في الإسلام كافة :

قال تعالى " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ] [البقرة : 208-209].

قال ابن جرير : يعني جل ثناؤه. بذلك: اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته.  وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام"،  وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيِ اعْمَلُوا بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ".[تفسير الطبري ].

"إنه الهتاف الخالد للذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله، دون ما تردد، ودون ما تلفت، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات، كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله، إنه توجيه هذه الدّعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية.. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.

والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كلّه سلم وكلّه سلام. عالم كلّه ثقة واطمئنان، وكلّه رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال.

إنّه إله واحد،  يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل[جمع قبلة بكسر القاف ]،  ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح".[الظلال بتصرف ].

الصيام ووحدة الأمة الإسلامية :

تمتلك أمتنا بفضل الله كل عناصر القوة والوحدة إن أحسنت توظيفها لاسيما في زمن الضّعف وتكالب الأعداء عليها ، حيث تأتيها مواسم الطاعة التي توحّد وجهتها فيالتها ثم ليتها وحدت وجهتها التعبدية والسياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها من مناحي الحياة ، قال تعالى "وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" [المؤمنون : 52]، وعناصر توحدها في توحيدها  وعبادتها لربها فمن مظاهر الوحدة في الصيام أيضا، اجتماع المسلمين بعد العشاء في كل ليلة منه؛ لأداء صلاة التراويح في جماعة يُعدُّ دعوة إلى وحدة الأمة في عبوديتها لربها، ووحدة صفّها، كذلك اعتكاف صفوة من المسلمين في المساجد تربية على وحدة الصف، فسنة الاعتكاف اختصّت بها العشر الأواخر من رمضان؛ تدريبًا لصفوة من أبناء الأمة المسلمة على الرجولة والجندية والاتحاد في المظهر والجوهر؛ لتؤصل في المسلمين وحدة الصف ، وتختم ذلك كلّه بيوم بهيج يعبر عن انتصار النفس المسلمة عن جميع بهرج الحياة وملذاتها وشهواتها ، إنه عيد الفطر حيث تلبس الأمة الحلل الجديدة تعبيرا عن ميلاد جديد وطهارة من الذنوب ، وفَكًّا لها من أغلال النفس وأهوائها ، ومن الاستعباد للغرب والشرق ، إنها عبودية خالصة لله تعالى  ، فما أجدر هذه الأمة  بجميع هذه المعاني وغيرها أن تكون قدوة الأمم ،  تحت راية القرءان الذي وحّد عباداتها ، ونسج أحكام معاملاتها .

رمضان شهر المعرفة:

إنّ أول ءاية نزلت من القرءان هي كلمة اقرأ ، كان ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يتعبد بغار حراء ، ويقرأ في صفحات الكون المنظور ، فجاءته ومنها تفجّرت ينابيع المعرفة الشاملة لأمّة كانت أميّة فصارت ذات حضارة راقية بفضل الله أوّلاً الذي اختارها لتكون ءاخر الأمم ثمّ بفضل هذا الشّهر المبارك الذي نزلت فيه تلك الآيات ، فالأمة اليوم مدعوة للتأمل في التدفق المعرفي وتوجيهه ليسلم وجهه لربّ العالمين ، حتى تتغلب الأجيال اللاحقة على التغريب الثقافي ، والاستيلاب الحضاري ، ولايتم ذلك إلا بطريقتين :

أ – طريق العلم، وهو ما يمثل رمزا واضحا للتأليف والكتابة والتعليم والبحث العلمي الموصول بالله سبحانه، والمسترشد بهديه أوليس هو القائل سبحانه {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم} [سورة العلق: 3-4].   
ب- طريق النّظر في الكون، وهو يمثل أمرا صريحا باكتشاف أسرار الخلق، والتكوين، ولإتقان هذا النوع من المعرفة العلمية التجريبية بوحي من قوله تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق} (سورة العلق: 1-2) ، ولايكون تحقيق ذلك إلاّ بتقوى الله تعالى ،  وإليه أشارت ءايات الصيام " لعلّكم تتّقون " ، وهو ما قاد واحدا كالإمام الزمخشري في مقدمة تفسيره «الكشّاف» أن يقرّر أنّ ثمّة طريقا مهمّا لتحصيل العلم لا سبيل إليه إلا بتحقيق التقوى وهو بعض المفهوم من قوله تعالى {واتقوا الله ويعلمكم الله} (البقرة: 282].
إن ارتباط الأمر الإلهي {اقرأ} بأجواء رمضان في ابتداء نزول الوحي يحمل دلالة مهمة يمكن استثمارها في أمر الله سبحانه وتعالى عبر هذا الارتباط الذي يدعو الأمة أن تقيم نهضتها تأسيسا على المعرفة بتنوعها بما ينتج عنه سبيل القوّة التي يريدها الله سبحانه للأمة الإسلامية.

رمضان وتأثيره على الاقتصاد :

إنّ من المعلوم أن الاقتصاد هو نصف المعيشة ،  وما افتقرت أمة أبدا كان اقتصادها في معيشتها وسطا ، لاإسراف فيه ولاتقتير، وقد جاء ذلك مبينا في الذكر الحكيم الذي أمر بالاقتصاد ونهى عن الإسراف ، فقال تعالى : " وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ] [الإسراء : 29].

وقال سبحانه ممتدحا عباده الصالحين المفلحين : [وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ][الفرقان:67]، وجاء البيان الاقتصادي الذي ينهى عن الإسراف في الجانب المعيشي في قوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ][الأعراف :31].

إنّ المتأمّل في رمضان إلى تخفيض  الوجبات من أربعة إلى وجبتين إحداهما في المغرب ، والأخرى في السحور ليندهش حقًّا لتلك البركة التي يحظى بها المسلم في تنفيذه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي القرءان ، حيث يكون قد وفّر عائدات طيبة يستفيد منها في تفطير الصائمين المعوزين وهو تحصيل مبدع في التكافل بين المسلمين مما يوفر الكثير للبطون الجائعة  والرؤوس الجاهلة ، فيجمع بين اقرأ، وبين الكرم تأسيّا بصفة الإله الأكرم الذي علم بالقلم .

وإن اختزال التكلفة الاقتصادية إلى النّصف او الثلث لتفيد كثيرا  فقراء المسلمين في إعطائهم زكاة الفطر يوم العيد ليتساوى الجميع في فرحة العيد ، وإدخال السرور على النفوس المحرومة،    فما أعظم ديننا لو فهمناه ، وما أجدرنا أن نكون أمّة الحضارة لو طبقناه .

إنّ الدّعوة إلى ترشيد الإنفاق في المجالات غير الضرورية تصبح مسألة وجيهة بعدما استطاع القرآن الكريم عبر منظومة رمضان أن يعوّد المسلمين في النظام اليومي لمدة شهر كامل على ترشيد الإنفاق في الحاجات الضرورية المتعلقة بالطعام والشراب.

فهل يستفيد المسلمون من هذا الشهر في ترشيد أموالهم ، والكفّ عن الاستهلاك للكماليات ، وتوفير المال للشدائد والملمّات التي تمرّ بها امتنا ؟ ، هذه هي الدروس الحقيقية من الصيام ، أم أنّنا سنظل نمتنع عن الأكل والشراب في النّهار لنضاعف الاستهلاك والإنفاق ليلا ، وأكثره يذهب إلى حاويات القمامة ،  فيعود علينا نزعا للبركة ، وضِيقا في النّفوس ، ومصائب يعاقب عليها اصحاب كفران النعم ومعهم الساكتون عن الحق، فاللهم رحماك. قال تعالى " لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد".

رمضان يصنع تاريخ الأمة السياسي :

لكل أمة تاريخها السياسي ، ومن قرأ السيرة العطرة وجد أنّ أمّتنا الإسلامية بدأت في بناء كيانها بعد الانتصار في أهمّ معركة تاريخية بين الكفر والإيمان،  بين جند الرحمن الذي يقوده سيد ولد عدنان صلى الله عليه سلم ، وبين جحافل الكفر والباطل والطغيان ، وكان ذلك النّصر في رمضان ، حيث غيّر مجرى التاريخ،  وتراجع أمام ذلك النصر العظيم  جيش الشرك والظلام ، وبدأ العدّ التّصاعدي لبنيان حضارة الأمّة وتاريخها الشّريف ، وتوطّدت أسس الدولة الإسلامية ، وصار يهابها الأعداء ، ويتملقّها المنافقون والغرباء .

إن الأمة الإسلامية حينما تكرر تلاوة القرءان مرات وكرّات لتشعر أن دستورها هو القرءان ، فتكتشف مرّة بعد مرّة أنّها أضاعت تحكيمه في حياتها ، فأضاعت بذلك الهدى والفرقان ، ولذا فإنّ من الواجب على علماء الأمة ودعاتها أن تكون لهم وقفات مع القرءان في رمضان، لتنزيل أحكامه على الواقع ، ومعالجة البون الشاسع بين المسلمين وقرءانهم ، فإن فهموا ذلك ، عاد للأمّة سلطانها وعزّها ، وشرفها ورفعتها في العالمين " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ "[الزخرف: 44] اي شرف .  

رمضان يصنع الشخصية الإسلامية :

 لقد جاء النداء الإيماني اللطيف للفئة المؤمنة ، لتصوم شهر رمضان فيصقل شخصيتها ويميزها عن سائر الشخصيات البشرية ، فهاهو يعلّل الصيام بأنّ الهدف الأسمى والمقصد الأسنى منه هو تقوى الله " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ] [البقرة: 183].وتقوى الله هي امتثال الأوامر واجتناب النّواهي ، امتثال للطاعات وابتعاد عن الخنا والمعاصي الجالبة للسيّئات ، وهذا المعنى افتتحت به تلك الآيات ،  واختتمت به فقال سبحانه  بعد أن ذكر ماينبغي اجتنابه للصّائم المعتكف " [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] [البقرة : 187].

وقد جاءت الأحاديث الدالة على أنّ المسلم الصّائم ليس كغيره إن امتنع عن الأكل والشراب ، بل هو يمتنع عن كلّ لفظ يخدش الحياء وكلّ قول زورٍ أو بهتان ، أو نهش للحوم الناس ، يؤدّي لهدم الخلاق في المجتمع فقد قال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم : " «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»[ البخاري : 1903]، وقال صلى الله عليه وسلم " " الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ "[البخاري : 1894].

إنّ هذه المعاني الجميلة تحملها جميع العبادات فهي حقيقة إسلام المرء لربه في كلّ شؤون حياته ، فالتوحيد يجرِّد قلبَ العبد من التّعلق بسوى الله ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصوم يلجم النفس عن الشهوات ، والسان عن الكلام البذيء ، والعين عن الخيانة ، وسائر الأعضاء عن المعاصي " الصّيام جُنَّةٌ " ، والزّكاة تطهّر نفس الغني من الشّحّ والبخل ، وتهذّب نفس الفقير من الحقد والحسد، والحجّ جمعَ ذلك كله ، فما أعظمه من دين لو فهمناه ، وما أطيبه من إسلام لو حكَّمناه وطبقناه.

الصيام والصحة البدنية :

إن رمضان شهر الصحة البدنية ، فينفي عنها الأمراض المخلة بنظام الجسم الصحيح  ، والسموم المتراكمة التي تنخر الجسم ، كما كشفت ذلك الدراسات الحديثة ، كما يرمي إلى بناء الشخصية القوية ذات الإرادة  المتزنة التي لاتتحكم فيها الملذات، ولاتستهويها الشهوات ، ولايستفز صاحبها  السفهاء ، ولا يكون عنصرا في الغوغاء ، بل هو مسلم يخطط لبناء مجد عظيم .

بل إنّ المسلمين في رمضان برهنوا على أنّ أبدانهم التي صامت إيمانا واحتسابا ، هي التي كانت تصنع النّصر بفضل الله في معارك المسلمين برمضان ، فلمّا استسلمت الأمّة للأكل والخمول والرفاهية ذلّت ، وتشرذَمَت وطمع فيها كلّ رخيص ، واسنستر عليها البغاث في الأرض .

رمضان والتكافل الاجتماعي :

إنّ المسلم في رمضان تتضاعف طاعاته ، وتزداد حسناته فيطيب قلبه وتنشرح نفسه ن وتسمو روحه ، فيزداد تطلعا لأفعال الخير،  وينشط في تنفيذها على أرض الواقع ، لاسيما وأنّ تلاوة القرءان تصنع في النّفس غنى عن الملّذات، وكثير من فضول مافي يده من ملذات الحياة ، فيدفعه ذلك إلى التكافل الاجتماعي ، وإعطاء الآخرين ، ولئن أردنا أن نمثل لذلك فلا نجد أحسن  من نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» [البخاري :6].

قال المهلّب :"وفيه  بركةُ أعمال الخير، وأنّ بعضها يفتح بعضًا، ويعين على بعض، ألا ترى أن بركة الصيام، ولقاء جبريل وعرضه القرآن عليه زاد فى جود النبى صلى الله عليه وسلم ، وصدقته حتى كان أجود من الريح المرسله"[شرح البخاري لابن بطال:4/22-23].

وهذا بفضل الله أمر مشاهد عند المسلمين عندما يأتي رمضان فتجدهم  يتنافسون في إفطار الصّائم، وسَدّ جوعة الجائع ، والتّبرع بجميع مايدخل السّرور على المحتاجين، من أرامل وأيتام، وتلكَ لعمرُ الله أخلاقِ المسلمينَ الأُوَّل ، وأخلاق الإسلام الصِّرفَة النّاصِعة ، وهذا هو التّكافل الإسلامي المعبّر عنه بقوله صلى الله عليه وسلم "  مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى][مسلم : (2586)].

 وبذلك يكون  شهر رمضان  مدخلا اجتماعيا يسهم في تحقيق الكرامة الإنسانية لأفراد المجتمع مدعوما بعدد من الأسس الاجتماعية الأخرى التي تصنع المجتمع بخصائص النهضة، وهذا الشهر أعلى نموذج تتجلى فيه سمات التكافل (إطعام- زكاة فطر…) والتراحم، والتنظيم.

رسائل رمضانية  إلى الأمة :

أمّتي الغالية لايمكن أن تكوني كما كنت إلاَّ إذا كانت استجابتك لهذا الدّين استجابة حقيقية لايشوبها العجز والكسل، ولاالتّواني والتردّد، بل استجابةً تأخذين فيها الكتاب بقوّة ، استجابة  يعبد فيها المسلم الصّائم القائم ربّه  في كلّ خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كلّ خطرة، وهو يرتقي صُعُداً إلى الله في كلّ نشاط وفي كلّ مجال.

الرسالة الأولى : رمضان شهر القرءان فاجعليه دستورا لك تحققي به كلّ أمل منشود ، وتسترجعين كلّ مجد مفقود .

الرسالة الثانية : رمضان شهر العبادات المتنوعة التي تبعث في النّفس السعادة والارتياح ، والطمأنينة والانشراح ، فاجعليه انطلاق الدّعوة إلى الله لتخرجي الأمم الغربية والشرقية الضالة من الظلمات وتدخليها إلى النور .

الرسالة الثالثة : رمضان شهر انتصار الإرادة على الشهوات والكماليات ، فداومي على ذلك بعد رمضان ، واجعلي السنة كلّها رمضان في كبح الشّهوات ، وتحسين الأخلاق وتلطيفها .

الرسالة الرابعة : رمضان شهر الاقتصاد والقضاء على الإسراف فاجعليه شهر التكافل الاجتماعي ، والنشاط الخيري في القضاء على الفقر والجهل والخرافات .

الرسالة الخامسة: رمضان شهر "اقرأ " فاجعليه مشعلا للدّعوة والمعرفة ، لتكوني قائدة لامنقادة ، وسيّدة مخدومة لاخادمة .

وأخيرا أقول لك ماقال الشاعر المسلم محمد إقبال :

أمةَ الصحراء يا شعب الخلود       من سواكم حلّ أغلال الورى
أيّ داع قبلكم في ذا الوجود        صاح لاكسرى هنا لاقيصرى
من سواكم في حديث أو قديم     اطلع القرآن صبحا للرشاد
هاتفا في مسمع الكون العظيم       ليس غير الله ربا للعباد
ويْ كأن لم تشرقوا في الكائنات    بهدى الإيمان والنهج والرشيد
ونسيتم في ظلام الحادثات      قيمة الصحراء في العيش الرغيد
كل شعب قام يبني نهضة        وأرى بنيانكم منقســــــــــــما
في قديم الدهر كنتم أمة          لهف نفسي كيف صرتم أمما
كل من أهمل ذاتيته                فهو أولى الناس طرا بالفناء
لن يرى في الدهر قوميته            كل من قلد عيش الغرباء
فكروا في عصركم واستبقوا           طالما كنتم مثالا للبشر 
واملؤوا الصحراء عزما وابعثوا       مرة أخرى بها روح عمر.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .

وكتب أبو سليمان مختار بن العربي مومن

23شعبان 1436هـ – الموافق لـــــــــــــــــــــــــ10جوان 2015

 

 

 

 

تعليقات المستخدمين

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يمكنك قراءة

  • 11 ربيع الأول 1442 هـ
    أحكام الأضاحي على مذهب المالكية

    أحكام الأضاحي على مذهب المالكية

  • 06 جمادى الآخرة 1444 هـ
    سلسلة التوحيد عند المالكية (1)

    سلسلة التوحيد عند المالكية (1)

  • 11 ربيع الأول 1442 هـ
    كيف تقي نفسك من الأفلام الإباحية

    كيف تقي نفسك من الأفلام الإباحية