العبودية لله

27-10-2020 1384 مشاهدة

 

 

 

 

 

 

 

العبـــودية للّــه

 

من إعداد وترتيب :أبي سليمان المختار بن العربي مؤمن

الباحث الشرعي بإدارة الدعوة بوزارة الأوقاف القطرية

 

 

 

 

 

 

 

                                  بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله المعبود بحق ، والصلاة والسلام على من سماه مولاه بالعبد فقال ] سبحان الذي أسرى بعبده [[الإسراء : 1]  ،وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان .

لايرتوي ظمأ النفس إلا إذا شرب من معين العبودية الرقراق ،ولاتستكين  نفس المؤمن ، ولا تخبت إلا إذا أصابها غيث النفحات الربانية لتأوي لركنه الشديد، وهديه السديد ، ولايزال العبد المنيب ينادي في هذه الحياة : يا نفسُ، أبشري فقد قرُب المنزل،  ودنا التلاقي فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة.

ومما زادنـي شـرفاً وتيهـاً       ***     وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبــــادي***      وأن صــــيرت أحمـد لي نبياً

ماهي العبودية ؟ :

 إِنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ كَمَالُ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ، فإذا  اسْتَفْرَغَ المحبوب  قُوَّةَ حُبِّهِ وَخُضُوعِهِ وَذُلِّهِ لِمَعْشُوقِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ.

 إن مفهوم العبودية هو نفسه مفهوم العبادة، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهو الغاية من خلق الإنس والجن، فالغاية من وجود الثقلين هو عبادة الله، وهو العبودية الصحيحة لله تعالى، وقد شرَّف الله تبارك وتعالى أحب خلقه إليه وأعظمهم عنده، وهو رسولنا محمد e  في أعلى درجات التكريم بأن قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1] قال (بِعَبْدِهِ ) في لحظة التكريم التي لم يبلغها أحد، إذ لم يبلغ أحد من البشر من التكريم إلى أن يرفعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه، كما رُفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء ، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى:         سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].

مرتبة العبودية  لاتجوز لغير الله تعالى :

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى :"أما التعبد فهو غاية الحبّ وغاية الذلّ يقال عَبَّدَه الحبُّ أي ذلَّلَـه وطريق معبّد بالأقدام أي مذلّل، وكذلك المحبّ قد ذلَّلَـه الحبّ ووطأه، ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غير الله عز وجل ،ولا يغفر الله سبحانه لمن أشرك به في عبادته ،ويغفر ما دون ذلك لمن شاء ،فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة ،وهي خالص حق الله على عباده، ففي الصحيح عن معاذ t  أنه قال كنت سائرا مع رسول الله e  فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلاَثًا: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ»؟  قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ: أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ " البخاري (6267). .

أشرف مقامات العبد هي العبودية :

إنّ أشرف مقام للمخلوق هو أن يكون عبدا لله خالصا، لاتتنازعه الأهواء ، ولايتقاسمه الشركاء ، ] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ  [ [الزمر:29].

ولما كانت العبودية لله هي أشرف المقامات  ذكر الله سبحانه رسوله بالعبودية في أشرفها وهي مقام التحدي ، ومقام الإسراء ، ومقام الدعوة ، فقال في التحدي  ] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ [ [البقرة: 23]، وقال في مقام الإسراء ]  سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام [ [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة  ] وأنه لما قام عبد الله يدعوه  [ [الجن :19]، وإذا تدافع أولو العزم الشفاعة الكبرى يوم القيامة يقول المسيح لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر[1] ، فنال ذلك المقام بكمال العبودية لله وكمال مغفرة الله له فأشرف صفات العبد صفة العبودية وأحب أسمائه إلى الله اسم العبودية.

أركان العبودية :

  1. المحبة الخالصة لله ولما يحبه جل جلاله ] يحبهم ويحبونه[[المائدة:54]  ] والذين ءامنوا أشدُّ حُـبًّا لله [[البقرة:165]. 
  2. الذلّ له سبحانه .
  3. الخوف والرهبة منه سبحانه  ] (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين [ . [ الأنبياء:  90].      
     
  4. الرّجاء في الله تعالى ] يرجون رحمته ويخافون عذابه [[المائدة :57]  .

قال بعض السلف: من عبد الله بالحبّ وحده فهو زنديق, ومن عبده بالرّجاء وحده فهو مرجئ, ومن عبده بالخوف وحده فهو حاروري, ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.

قال ابن القيم رحمه الله:      
وعبادة الرحمن غاية حبـه               مع ذل عابـده هما قطبـان
وعليهما فلك العبادة دائـر           ما دار حتى قامت القبطـان
ومداره بالأمر أمر رسوله          لا بالهوى والنفس والشيطان

صور من عبودية  السلف لله تعالى :

  عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»  البخاري ومسلم .

وسئل نافع- رحمه الله – عما يفعله ابن عمر رضي الله عنهما في منزله قال: "الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما".

يقول الحسن البصري رحمه الله واصفاً اجتهاد السلف في العبادة: "لقد أدركت أقواماً وصحبت طوائف فما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يحزنون على شيء أدبر، وكانت في أعينهم أهون من التراب الذي يطأون عليه، وكانوا عاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. كانوا إذا جن الليل قاموا على أقدامهم وافترشوا وجوههم وجرت دموعهم على خدودهم".وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا وأحيا ليلةً وأعتق رقبة.. وقالت فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: ما رأيت أحدًا أكثر صلاة ولا صيامًا منه، ولا أحدًا أشد طرقًا منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يذكر الله حتى تغلبه عيناه ثم ينتبه. ولقد كان يكون على الفراش فيذكر الشيء من أمور الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء ويجلسُ يبكي، فأطرحُ عليه اللحاف.

وعن وكيع قال: كان الأعمش قريباً من سبعين سنةً لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيتهُ يقضي ركعة. وقال سلمان بن حمزة المقدسي: لم أصلِّ الفريضة قطُّ منفرداً إلا مرتين وكأني لم أصلها قطّ، مع أنه قارب التسعين حين مات، رحمهم الله تعالى.

إخوة الإسلام، هذه نماذج خاطفة وإشارات عابرة لأناس امتلأت قلوبهم من محبة الله، فقرّت أعينهم وسكنت نفوسهم واطمأنت جوارحهم، فصارت خطرات المحبة مكان خطرات المعصية، وإرادة التقرب إليه مكان إرادة معاصيه، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تغلغل وترسخ حب العبادة في قلبه، وأعظم مظهر لعبادته أنه كان مسلماً وجهه لله في جميع الحالات,كان يخشى الله في جميع أحواله ويذكره دائماً ويستغفره فيقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) أخرجه البخاري.

كان يتعبد الله في الليل ويصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يقوم مصلياً حتى تنتفخ قدماه فيقال له: يا رسول الله، تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) أخرجه البخاري ومسلم.     
قال ابن تيمية رحمه الله: "القلب لا يَصلُحُ ولا يُفلِح، ولا ينعمُ ولا يُسر، ولا يمتد ولا يضيق، ولا يسكن ولا يطمئن؛ إلا بعبادة ربه وحده، ولو حصّل كل ما يرتد به من المخلوقات, لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة فهو معبوده ومحبوبه ومقصوده". انتهى كلامه.

ولما كانت حياة السلف كلها عبادة، تزاحمت بينهم العبادات، بم يبدؤون؟ وماذا يُقدِّمون؟ فأجاب العالم الرباني ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن أفضل الأعمال أحبها إلى الله وأرضاها له عز وجل في ذلك الوقت. ثم يفصّلُ قائلاً: فالأفضل في وقت حلول الضيف القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب, وكذا في أداء حقوق الزوجة، والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن , والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجدّ والنصح في إقامتها والمبادرة إليها, والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك، والأفضل في وقت نزول النوازل وإيتاء الناس لك أداءُ واجب الصبر مع خلطتك بهم وعدم هربك منهم. ثم يقول رحمه الله: ولا يزال العبد متنقلاً بين منازل العبودية، إن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم, وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم, وإن رأيت المتصدقين رأيته معهم، يسير على مراد ربه ولو كانت راحةُ نفسه ولذتها في سواه". انتهى كلامه رحمه الله.

خاتمة :

كن عبدا لله في كل أحوالك وأقوالك وأفعالك يكن الله في شؤونك كلها ، وتأمل قوله تعالى : ] قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ  [ [الأنعام :162-163].      
 

 

 



[1] – البخاري (4712،  ومواضع أخرى) ومسلم (194) عن أبي هريرة t .

 

تعليقات المستخدمين

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يمكنك قراءة

  • 10 ربيع الأول 1442 هـ
    من روائع التفسير الأولى

    من روائع التفسير الأولى

  • 11 ربيع الأول 1442 هـ
    ترجمة مختصرة لشيخنا العلامة محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي

    ترجمة مختصرة لشيخنا العلامة محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي

  • 11 ربيع الأول 1442 هـ
    رفع الضرر في غض البصر

    رفع الضرر في غض البصر