الحلول الإسلامية للقضاء على الفقر
11-01-2023 707 مشاهدة🔴 الحلول الإسلامية للقضاء على الفقر
✍️ الشيخ مختار بن العربي مؤمن الجزائري ثم الشنقيطي
عضو مجلس الأمناء بالهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام
▪️لتحميل المقال بصيغة pdf :
https://t.me/mokhtarmoumene/1100
=============================
بسم الله الغني الحكيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الذي قال أجوع يوماً فأصبر وأشبع يوماً فأشكر، وبعد:
فإن النبي ﷺ كان يستعيذ بالله من الفقر فيقول: “اللّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ” .
وفي رواية: “… من الفقر، والفاقة، والقلة، والذلة، والعِيلة…” .
فإن فلسفة الإسلام في معالجة الفقر وتوجيه الثراء فلسفة عظيمة، لم تكن تمثل الرأسمالية الجشعة التي لا همَّ لها إلاّ ثراء شرذمة من الناس ولو افتقر العالم كلّه، ولا الاشتراكية الماركسية التي يحدوها تفقير الأغنياء واستحالة إغناء الفقراء، ولكن شريعة الإسلام جاءت لتؤسس لمبادئ عظيمة تحفظ بها كرامة الإنسان ورفعتها، سواء كان من الأغنياء أم من الفقراء.
هل الفقر عيب في الإسلام؟
لم يكن الفقر يوماً عيباً في الإسلام لأنّ الفقر والغِنى قسمة من الله الكريم سبحانه، قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32]
ولقد كانت الأسوة العظيمة من الأنبياء والرسل، منهم مَن قد مسّه الفقر، فسأل الله أن يغنيه من فضله، فهذا نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام يقول: ﴿ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍۢ فَقِيرٌ﴾ [القصص:24]، ولقد كان نبينا ﷺ عبداً رسولاً قد رضي من الدنيا بالقليل، فجاع حتى ربط على بطنه الشريف حجرين، ومات ولم يجدوا في بيته غير حفنات من شعير، ولو شاء لجعل الله له جبال مكة ذهباً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “تُوُفِّيَ رسول الله ﷺ وما في بيتي من شيء يَأكُلُهُ ذُو كَبدٍ إلا شَطْرُ شَعير في رَفٍّ لي، فأكَلتُ منه حتى طال عليَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ” .
ولكن العيب أن يقيم العبد على تلك الحالة لا يريد تغييرها، فيرضى بإهانة نفسه وإذلالها في تتبع طرق تجلب له الغِنى من تسوّل وسلوك لطرق الكسب الحرام، ليكوّن ثروة من الطرق الملتوية التي لا يرضاها الله، ولا يبارك في طارقها وسالك سبيلها، ولذلك كانت الأسوة الحسنة سيدنا رسول الله ﷺ يستعيذ بالله من الفقر ويشركه مع الكفر، لأن الفقر خراب الدنيا، والكفر خراب الآخرة.
اهتمام الإسلام بمعالجة الفقر
لقد اهتمَّ الإسلام بمحاربة الفقر، ووضع وسائل وأسباب عديدة للقضاء عليه ما أمكن، أو تخفيف آثاره على الأقل، وعالج هذه الظاهرة بأمرين أساسيين:
الأول: احترامه للكرامة الإنسانيَّة
لقد حفظ الإسلام كرامة الإنسان فسوَّى بين جميع الأجناس والألوان والطبقات في الكرامة الإنسانيَّة، وجعل المفاضلةَ على اعتبار التقوى والإنتاج والعمل الصَّالح قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ رضي الله عنه قال: قال ﷺ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى. أَبَلَّغْتُ” .
الثاني: سَنُّه لمبادئ التكافل الاجتماعي
إن حلول الإسلام كانت أرقى ممَّا وصلت إليه البشريَّة في العصر الحديث.
الحل الأول، السعي والعمل:
لا بد لكلِّ قادر أن يسعى ويعمل، فالرزق مضمون لكنَّه لن يأتي إلاّ بسعي، ولذلك شجَّع رسول الله ﷺ صحابَته على مزاولة المهن. فعن الزّبير بن العوّام رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “لِأن يأخذ أحدُكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره، فيبيعها فيكفَّ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطَوه أو منعوه” .
بل إنَّ رسول الله ﷺ عدَّ الطعامَ الذي يأكله المرءُ من عمل يده هو أطيب طعام؛ عن المِقدامِ بن معدي كرب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكُل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود ﷺ كان يأكل من عمل يده” .
وحرَّم الإسلام التسوُّل، واعتبره نكتة سوداء في وجه صاحبه يوم القيامة، وهو وصمةُ عار في الدنيا، ولم يُجِزه إلا في حالاتٍ ثلاث؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: “المسألة لا تحلُّ إلا لثلاثة: لذي فقر مُدقع، أو لذي غُرْم مفظِع، أو لذي دمٍ مُوجع” .
والمُدقع: الشديد، مفظع: ثقيل، دم مُوجع: دية باهظة.
الحل الثاني، وجوب النفقة على الأقربين:
فقد جعل الإسلام النفقة واجبة على الأبوين لأولادهم العاجزين عن العمل، أو أقاربهم الذين أصابتهم عاهات مستديمة، أو لحقتهم الشيخوخة، نساء ورجالاً، وأمر بالإنفاق عليهم وإكرامهم، وجعل ذلك من البرّ العظيم فقال سبحانه: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: 177].
بل أمر بإكرامهم والإحسان إليهم إذا حضروا قسمة ميراث من لا يرثونه فقال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 8].
وقال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: 26] يعني: صلة الرحم، وأراد به: قرابة الإنسان، وعليه الأكثرون.
الحل الثالث، أوجب الله عزَّ وجل للفقير نصيبًا من أموال الزكاة حقاً له
فشرع الزكاة فرضاً فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
فيُعطَى الفقير من مال الزكاة ما يؤمِّن نفقاته، وليس لأحد عليه مِنَّة ولا فضل؛ بل هو حقٌّ له، جعله الله عزَّ وجل في مال الأغنياء.
ولم تكن فلسفة الإسلام العقابية منزوية تبحث عن العقاب والألم في أجساد الناس وتغريمهم والزج بهم في غياهيب السجون، بل جعلت الكفّارات إحدى العوامل المربيّة للمخالف لأحكام الشّرع، والمقصّر في أداء العبادات، وسدّاً لخلّة الفقراء والمساكين، وإعطائهم تلك الكفارات لسدّ حاجاتهم، بل راعت ذلك حتى في مواسم الخير كالأعياد حتى يستوي الفقير مع الغني في فرحة العيد والتلذذ بطيبات ذلك اليوم السعيد، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ”. وَقَالَ: “أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ”. وَقَالَ يُوسُفُ: “صَدَقَةُ الْفِطْرِ” .
وقد سار الخلفاءُ على نهج نبيِّهم في متابعة شؤون الرَّعية وتفقُّد أحوالهم بأنفسهم لتقديم العون لهم، فبينما كان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يتفقَّد رعيته ليلاً سمع بكاءَ طفل، فطلب مِن مساعده الذي كان معه أن يأمر أمَّ الطفل بإسكاته، فإذا بها تخبرهم بأنَّها تريد فطامه كي يأخذ عطاءَ فطيم -عطاء: راتب- من بيت المال، فطلب منها أن تُرضعه، وفي اليوم التّالي سنَّ الخليفةُ قانوناً بأن يُفرض لكل مولود عطاء إلى عطاء أبيه بمقدار مائة درهم، وكلمّا نما زاد العطاء، وجرى على ذلك الخلفاءُ من بعده.
كما فرض للفقراء من أهل الذِّمة وكبار السَّن والنساء عطاءً كذلك.
الحلّ الرَّابع، الصدقة
وهي العطية التي يُبتغى بها الثواب عند الله تعالى. وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها؛ منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قوله: “ما مِن يوم يصبح العبادُ فيه إلاَّ ملَكان ينزلان، فيقول أحدُهما اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا”. متفق عليه.
وحثَّ رسولُ الله ﷺ المؤمنين على مواساة الأقارب الفقراء -الذين لا تجب نفقتهم عليه ومساعدتهم- وكذلك الجيران، فبيَّن أنَّ الصَّدقة على الأقارب مضاعفة؛ من ذلك ما رواه سَلْمَان بن عَامِرٍ قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: “الصَّدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرَّحم ثنتان: صدقة وصلة” .
كما حذَّر من وجود جار فقيرٍ يبيت طاويًا من الجوع، فقال ﷺ: “ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم” .
ولقد كان السلف مضرب المثل في معالجة الفقر، ومواساة طلبة العلم الجوابين الآفاق، وسد عوز أسر كثير لا تعرف من أين يأتيها رزقها، كما وقع ذلك في المدينة المنورة، فلمَّا مات من كان يُنفق عليها انقطعَت المعونات عنهم، وعندما غسَّلوه وجدوا آثارَ الحبال على أكتافه؛ إنَّه زين العابدين بن الحسين رضي الله عنه وعن والديه.
الحل الخامس: صناعة المشاريع المربحة لأصحاب الحرف العاطلين
إحدى أهم وسائل القضاء على الفقر ومعالجة آثاره، لأن بعض مَن تنهال المساعدات عليهم من الفقراء في مواسم الخير كشهر الصيام والأعياد، لا يحسنون استثمار تلك الأموال فيبددونها في حينها، ويظلوا يترقبون موسماً آخر، ممَّا يستدعي البحث عن طريقة أفضل لمساعدته طوال العام، ولذلك لما تكلم الفقهاء عن الزكاة وإعطائها للفقير، اختلفوا في ما يُعطَى إليه، هل ما يسد حاجته في سنته أم طول عمره، والمراد من طول العمر إيجاد حرفة يعود عليه خيرها ويدفع بها عنه العوز والحاجة.
الحل السادس: الوقف
وهو تحبيس الأصول وتسبيل المنافع، وللوقف فوائد عظيمة في دوام انتفاع المسلمين به، ووصول الثواب إلى المرء بعد موته باستمرار وجود الوقف، وذلك حسب الجهة الموقوف عليها؛ فقد يكون وقفًا للمجاهدين، وقد يكون وَقفًا للعلماء وطلبة العلم، وقد يكون وقفًا على الفقراء والمساكين، وقد يكون وقفًا على المساجد، وغير ذلك.
والحاجة إليه ماسَّة في الوقت الحالي.
وقد أحسن المسلمون استثمار الوقف؛ فكان له دورٌ كبير في إعالة الأُسَر الفقيرة واستقرارها بجوار مشاريع الوقف، وأسهم في تحسين الظروف الصِّحية، وكان له أثر كبير في استمرار كثيرٍ من المدارس والمعاهد والمستشفيات التعليمية، فتمَّ بذلك القضاء على الجهل؛ بل أسهم في تقدُّم العلم في كافَّة المجالات.
وحينما توجد الحلول لمعالجة الفقر مع مراعاة القيم الأخلاقية تتحسن الحياة، وتختفي الآفات الاجتماعية، وتتربى الأجيال بعيدة عن الآثام في وئام أخلاقي، ويعطَى كل ذي حق حقه، وليس غريبًا أنَّ رسول الله ﷺ كان يتعوَّذ من الكُفر والفقر دُبر كل صلاة؛ لشدَّة خطورة الفقر: “اللهُمَّ إنَّي أَعُوذُ بكَ من الكُفرِ وَالفَقرِ”.